"دنيا لا يملكها من يملكها .. أغنى أهليها سادتها الفقراء .. الخاسر من لم يأخذ منها .. ما تعطيه على استحياء .. والغافل من ظنّ الأشياء .. هي الأشياء! " رحل ناظم تلك الدرر الشاعر السوداني الكبير محمد مفتاح الفيتوري، رحل في المغرب بعد رحلة مرض مريرة كان منها إصابته بجلطة دماغية ، وقد خلف برحيله حزنا رهيبا بنفوس محبيه حول العالم العربي. شاعر إفريقيا والعرب، أنكرته أوطانه فأتى العاشقون إليه، ولكنه ظل عصفورا ثائرا يسافر شرق الشمس وغرب القمر، يحط على أغصان الليل العربي فيحطم أصنام الطغاة ثم يهيم كسلطان عاشق. رحيل يفتح بابا للتساؤل عن شاعر تمزق بين هويات شتى، طرده السودان بسبب قصائده النضالية، وتخلت عنه ليبيا بعد سقوط القذافي، وسحبت منه جوازات سفره الدبلوماسية، وظل يشعر بمرارة الغربة حتى حط رحاله بالمغرب وتحت ثراه دفن. ولعله يرثي حاله فيقول : بعض شعرك ما لم تعلقه تعويذه في الرقاب .. ليصحو في صوتك الميتون .. وما لم تنقطه في قطرات السحاب لينصهر النهر والسابحون .. وماهو معني حضورك عند الغياب .. ومعناك في الغيب عند حضور السؤال ؟ حياة مضطربة في شبابه افتتح محمد سعيد محمدية صاحب دار "العودة" ببيروت كتابه المليء بالأسرار والصادر عام 2008 عن صديقه الراحل محمد الفيتوري . لقد أخبر الفيتوري صديقه محمد سعيد باحتراق زوجته الأولى الفلسطينية التي عقد عليها في القاهرة وهو ما يزال طالبا، فأصابه الخرس والهمود ولم يستطع إنقاذها إلا بعد أن نالت النيران منها وضربها التشويه بوجهها وجسدها ، وعلى أية حال فقد ترك القاهرة لأسباب متعلقة بزوجته الثانية آسيا والتي كانت شديدة التسلط داخل بيتها، وقفل عائدا للخرطوم. قبل خروجه من الخرطوم على الفيتوري على حافة الانكسار، كان ثابتا على نيته أن ينتفض انتفاضة كبرى يتخلص فيها مما يكتم أنفاسه من جحيم الأيام ورتابتها ، وأن يشق طريقا خالصا لا يحمل فيه سوى قلمه ومحبرة . بعد انضمام الفيتوري للثورة الليبية، واعتقاده بأنها من أنبل الثورات العربية، كان تقربه من العقيد القذافي الذي منحه سلطة وجاه، كان سعيدا بوضعه خاصة بعد أن صار دبلوماسيا مرموقا في لندن، مبعوثا لليبيا وليس السودان، كان يشعر أن بذلك تعويض له عن سنوات القهر التي عاشها بالخرطوم، ومع ذلك ظل يعتبر نفسه صديقا للتعساء والمحرومين وفيا لالتزاماته الروحية والأخلاقية . كانت ذاته الشعرية قد بدأت تتضخم وهجا محمود درويش ، واعتبره ربيب الحزب الشيوعي الفلسطيني الإسرائيلي، ورجل أبوعمار في السلطة، وهجا عمر أبوريشة سفير سوريا في عهد شكري القوتلي واعتباره مبعوثا للبعثيين وأعطى ولائه فيما بعد للملك فيصل، وكرر قولته في الشاعر العراقي الجواهري الذي قال بحسبه القصيدة الواحدة في أكثر من ملك وزعيم ، والبياتي من الأدعياء ، أما أحمد شوقي فلم يكن سوى ربيب القصر الملكي في مصر! لقد تعرض الطيب صالح في احد مقالاته بورقته الأخيرة بمجله المجلة إلى عنف ومسببات هذه الخصومة الحادة بين الشاعرين الفيتوري والبياتي مدعيا رحمه الله أن دافعها الحب!! وانه متقينا أن أحدهما سيرثى الآخر عبر هذا الحب العنيف بينهما الذي تجلى على شكل خصومة كذلك تعرض الفيتورى بحده وصدق إلى درويش فلسطين محمود ذاكرا أنه شاعر السلطة الأوحد " ربما ذكر الفيتورى ذلك القول قبيل انشقاق درويش وشفيق الحوت عن المنظمة 1994 عقب أوسلو . وعلى أية حال، فالشهادة التي وضعها الكاتب السوداني لم تلق ترحيبا كبيرا من قبل كثير من قراء الفيتوري الذي عهدوا فيه التصالح مع ذاته ومع الآخرين. ويروي الكتاب جذور العواصف التي ألمت بالفيتوري فقد استقر به الحال في الجامعة العربية موظفا ساميا له راتب كبير حتى جاء "الديكتاتور" النميرى بالسبعينات فغير صورة السودان الى حالة الفوضى والحقد والنظام الشمولى المخابراتى ، بل وتأثر الفيتوري بإعدام رفاقه المناضلين ومنهم عبدالخالق محجوب والعميد بابكر النور ، ثم طاله النميري وانتقم منه جزاء كتابته قصائد عن رفاقه ، فطرده من وظيفته وشرده ليصبح بلا عمل ، وإن كانت السودان قد منحه العام الماضي جوازه الدبلوماسي مجددا في اعتذار متأخر! ومن قصيدته الشهيرة لرفيقه محجوب كتب يقول : لاتحفروا لى قبرا سأرقد في كل شبر من الأرض وأرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادى مثلى أنا ليس يسكن قبرا لقد وقفوا... ووقفت .. لماذا يظن الطغاه الصغار وتشحب ألوانهم أن موت المناضل موت القضية أعلم سر احتكام الطغاه إلى البندقية لا خائفا إن صوتى مشنقة للطغاة جميعا ولا نادما .. إن روحى مثقلة بالغضب كل طاغية صنم .. دمية من خشب صوفية ثورية يفتتح الطيب صالح ، أحد أهم روائيي السودان، روايته "ضو البيت" بمقطوعة من أشهر قصائد الفيتوري "معزوفة لدرويش متجول" كتبها عام 1967 وكأن النكسة قد جرفته تماما لتيار العشق الإلهي: في حضرة من أهوى عبثت بى الأشواق حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق وزحمت براياتى وطبولى الآفاق عشقى يفنى عشقى وفنائى استغراقد مملوكك ... لكنى سلطان العشاق! شحُبت روحي، صارت شفقا شعّت غيما وسنا كالدرويش المتعلّق في قدمي مولاه انا أتمرغ في شجني أتوهج في بدنى غيرى أعمى، مهما أصغى، لن يبصرنى فأنا جسد.. حجر شىء عبر الشاعر جزر غرقى في قاع البحر.. حريق في الزمن الضائع قنديل زيتي مبهوت في أقصى بيت، في بيروت أتألق حينا. ثم أرنق ثم أموت في رائعته "ياقوت العرش" والتي نسب اسمها لزاهد من أصحاب "أبي العباس المرسي" يكتب بروح صوفية كامنة تتخلى عن كل طمع بسلطان : تاج السلطان الغاشم تفاحه تتأرجح أعلى سارية الساحة تاج الصوفي يضيء على سجادة قش صدقني يا ياقوت العرش أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى والراحة ليست هاتيك الراحة ويظل نفس الصوفي الثائر في قصيدته الشهيرة "يوميات حاج إلى بيت الله الحرام" : يقول مخاطبا رسول الله : يا سيدي تعلم أَنْ كان لنا مجدٌ وضيّعْناه بنيْته أنت, وهدّمناه واليوم ها نحنُ, أجل يا سيدي نرفلُ في سقطتنا العظيمة كأننا شواهدٌ قديمة تعيش عُمرها لكيْ تُؤرّخ الهزيمة حافظ الفيتوري أيضا على نهج راق بقصائده فكتب يقول : نهر فاغتسل أيها المغتسل آية العاشق الفرد أن يمتثل وقد يصل الماءُ أو لا يصل والمدى نجمةُ فى المدى ترتحل فاسقهم منك فى روحهم تشتعل وامش تحت حوائطهم تكتمل رفض الاستبداد طلت مأساة فلسطين بقصائد الفيتوري، وعن طفل الحجارة، وهي قصيدة بديوانه "يأتي العاشقون إليك" كتب : انه التاريخ مسقوفاً بازهار الجماجم انه روح فلسطين المقاوم انه الأرض التى لم تخن الأرض وخانتها الطرابيش وخاننتها العمائم انه الحق الذى لم يخن الحق وخانته الحكومات وخانته المحاكم ومع الثورة، يستنهض الفيتوري جذوة المقاومة في قومه بقصيدته "هوانا" فيقول منها : الهوى كل هوى دون هوانا نحن من أشعلت الشمس يدانا والخُطى مهما تناءت أودنت فهى في دورتها رجع خطانا واذا التاريخُ أغنى أُمَّةً بشهيدً .. فأُلوف شهدانا واذا الثورة كانت بطلاً يطأُ الموت ويحتلّث الزمانا فلنا في كُلِّ جيل بطل'' مجدهُ يحتضن المجد أحتضانا كان محمد الفيتوري مدافعا شرسا عن الفقراء والتعساء فكتب ب"سورة الفقير" : إن عدلاً على هذه الأرض ليس هو العدل ما بقى السوط يستنطق الناس فليركل الميتون مقابرهم ولتقم آية العدلِ همُ صوروا الله فوق كيفما حلموا إنما اللهُ فى الناس لا مثلما زعم العاكفون على الرمل وفي قصيدة ثورية يكتب : أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي واذا الفجر جناحان يرفان عليك واذا الحزن الذي كحل تلك المآقي والذي شد وثاقا لوثاق والذي بعثرنا في كل وادي فرحة نابعة من كل قلب يابلادي وعلى ضفاف شعر الفيتوري سنجد أيضا دفقة صوفية معارضة للسلطان، يقول بإحدى قصائده : تنام يا مولاى مهموما، وتصحوا متعبا واعجبا! تلبس تاجا من ذهب وجبة من الحرير والقصب وحولك الحجاب والحراس بالآلاف ثم تخاف أهذه خاتمة المطاف؟ حنين لإفريقيا لم ينس الفيتوري جذوره يوما وهو من أبدع ثلاثية شعرية ، وفداء للسودان يكتب الفيتوري : كان اسمها أم درمان كان اسمها الثورة كان العرس عرس الشمال كان جنوبيّاً هواها وكانت ساعة النصر إكتمال الهلال فداً لك العمر ولو لا الأسى لقلت تفديك الليالي الطوال فداً لك العمر ويغني لإفريقيا فيقول : يا أخي في الشرق ، في كل ..سكن يا أخي فى الأرض ، فى كل ..وطن أنا أدعوك .. فهل تعرفنى ؟ يا ..أخا أعرفه .. رغم المحن إنني مزقت أكفان الدجى إننى هدمت ..جدران وفي ثمانينية مانديلا كتب له يقول : وكيف تكونُ ..سجيناً وأنت هنالك ترسم ..وجهك في شهقات ..الصبايا وأدخنة الغرف ..المعتمات وفوق رماد ..المناجم كيف تكون سجيناً وهُم يلهثون ..وراءك تحت جسور ..بريتوريا وبناياتها ..الراعشات وأنت تُكافئهم ..بالهزائم مانديللا ظل الفيتوري رغم البُعد وفيا لجذوره الإفريقية وهو من كتب : أنا لا أملك غير إيماني بشعبي وتأريخ بلادي وبلادي أرض أفريقيا البعيدة هذه الأرض التي احملها ملء الهواء والتي أعبدها في كبرياء وتارة أخرى يقول : قلها لا تجبن لا تجبن قلها في وجه البشرية أنا زنجي وأبى زنجي المجد وأمي زنجية أو: لأن وجهي أسود ولئن وجهك أبيض سميتني عبدا كان يقول ذلك بمجتمع أوروبي ويستدعي كتاب آخر تأليف محمد عبدالحي باسم "الصراع والهوية" قوله : "لقد كانت عيونهم تخترقي وتتبعني أينما ذهبت ..كانوا يضحكون منى..لقد عرفت السر..سر المأساة :كنت قصيرا اسودا ودميما" شعر الفيتوري – بحسب الكاتب – أن بيروت زرعت في روحه نبتة خضراء ووردة وبعثت في قلبه ترتيلة ونغما فقد أكرمته ومجدته واعطاه الناس والنقاد حبا وحقوقا . كما فعلت معه في المرة الاولى التى اطل فيهاعلى لبنان في مهرجان الاخطل الصغير . وبحسب الكتاب، فقد امتلك الفيتوري قدرة سحرية في التأثير على مستمعي إلقائه الشعري، خاصة وأن قصائده تمس أوجاع العرب وتعظم أبطالهم ، بل وقد حضر المؤلف مهرجان أبي تمام ورأى كيف فاق حضور الفيتوري حضور الشاعر العملاق نزار قباني . لقد عرض الكاتب على الشاعر الفيتوري في سنواته الأخيرة بالمغرب، مسودة لكتابه، ولكنه قالها حاسما : اكتب ما تشاء فالأمر لايعنينى ... كل شىء قد انتهى واستوى السواد والبياض ... أنها رحلة قصيرة ونصل للنهاية. وبعد فترة صمت قال الفيتورى وهو يسرح بناظريه إلى أفق لا حدود له بصحبة زوجته الوفية وقال : أريدالرحيل من هذا المكان ... اريد الخروج وراء حدود المكان والزمان ... لا اعرف وصفا لهذه المدينة فى معجم البلدان .. لكن جناحىّ مكسوران.