قف خشوعاً واخفض الرأس فقد أشعل الموتى القناديل وقاموا والذى تبصره عيناك في ذلك الدرب الرمادي زحام والذى يسقط من أقدامهم هيكل رث البقايا وحطام عادت المعجزة الكبري فإنه رغم الموت بدء وختام فتعلم كيف تحيي أمةٌ نسيت أن البطولات اقتحام أن أرض الحر مهما استلبت أرضه فهي على الغير حرام أن تاريخاً مشت في ظله قدم الطغيان تاريخ مضام... غيب الموت صاحب هذه الكلمات الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري، أمس الجمعة بمستشفى الشيخ زايد بالعاصمة المغربية الرباط عن عمر يناهز 85 عاما بعد معاناة طويلة مع المرض. ولد الفيتوري بالسودان ونشأ في مدينة الاسكندرية بمصر وحفظ القرآن وانتقل إلى القاهرة حيث تخرج من كلية العلوم بالأزهر الشريف. وعمل محررا بصحف مصرية وسودانية وشغل عدة مناصب إعلامية ودبلوماسية. ويعد الفيتوري من رواد شعر التفعيلة في العصر الحديث كما تميل كتاباته إلى التصوف، ونال العديد من الأوسمة والجوائز في عدة دول عربية كالسودان والعراق ومصر وليبيا والمغرب. وأسقطت عنه الحكومة السودانية الجنسية وسحبت منه جواز سفره عام 1974 بسبب معارضته لنظام جعفر النميري لكن الحكومة السودانية أعادت له جنسيته ومنحته جواز سفر دبلوماسيا عام 2014. ويعتبر الفيتوري من رواد الشعر الحديث، ويلقب بشاعر أفريقيا والعروبة، وأنشد للقارة السمراء ونضالها ضد المستعمر، وألف دواوين كثيرة فيها، منها أغاني أفريقيا 1955، وعاشق من أفريقيا 1964 واذكريني يا أفريقيا 1956، وفي إحدى أشهر قصائده يقول: لا تحفروا لي قبرًا سأرقد في كل شبر من الأرض أرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلي أنا ليس يسكن قبرا كما واكب الراحل ثورات التحرر من الاستعمار في أفريقيا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وأسهم في كتابة المسرح الشعري العربي. وقد واجهت الفيتوري في مسيرته كثير من المصاعب لأسباب سياسية، فقد اختلف مع نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري في فترة السبعينيات وهاجر إلى ليبيا وحصل على جنسيتها وأصبح ممثلا ثقافيا لليبيا في عدة بلدان. لكن تواصل الفيتوري مع السودان لم ينقطع، وعاد عقب الإطاحة بالنميري في ثورة شعبية عام 1985، وغنى له الفنان الراحل محمد وردي أغنية "عرس السودان" التي مجد فيها انتفاضة الشعب السوداني ضد نظام نميري. وفي السنوات الأخيرة طالب كثير من الأصوات الثقافية برجوع جنسيته وجوازه السوداني بعدما سحبهما النميري، وتحقق ذلك أخيرا، وللفيتوري مدرسته الخاصة في كتابة القصيدة، وإضافة إلى تغنيه بأفريقيا كان له صوت واضح من أجل قضايا الأمة العربية. يقول الراحل في إحدى الحوارات الصحفية: إنني أشعر بالانتماء الوجداني إلى كل أرض عربية أقمت فيها، لأنني مزيج مركب لما تميز به غيري من الشعراء، في كل المحطات الحياتية التي مررت بها، ستجدها حاضرة في أشعاري بصدقها وعفويتها، في صور ذكريات طفولتي التي تمثل مسرح أحلامي، حيث سعيت من خلالها إلى أن ألتزم الصدق في التعبير عن ذاتي وعن علاقتي مع الآخرين، إنني أشعر أن هويات متعددة تخترقني، هذا ما عَبّرت عنه في قصائدي. لا أدعي التميُّز والتفرُّد، لقد كنت في شعري مثل الآخرين، إنسان يحلم بأن تصل كلمته إلى الإنسانية جمعاء. وأن تنمو كلمتي الشعرية وتتلاقح مع أفكار الآخرين. يواصل: لقد سعيت منذ أن وعيت وجودي إلى أن أكون مخلصاً لعدالة كفاح شعوب إفريقيا، التي مازالت تجري في عروقي. كل ما أتمناه لإفريقيا السمراء أن تستمر في كفاحها. وأن تتخلّص من مستغليها الجدد ومن حكامها الفاسدين، الذين يقبلون بالسيادة المنقوصة مقابل بقائهم في السلطة، أنا متفائل بأن إفريقيا قادرة غداً أن تتخطى عثراتها، وأن تجتاز بنجاح حروب الحقد والكراهية التي تجتاحها، ومواجهة حروب الإبادة العرقية التي تتعرّض لها شعوبها نتيجة للانقلابات العسكرية التي تنتج عنها أنظمة استبدادية، وذلك بالتحدي اليقظ لشعوبها ضد كل المناورات الخارجية التي تُحاك ضدها. أعيش قلقاً، نتيجة للأوضاع المتدهورة التي تعرفها إفريقيا في مجال الحريات وحقوق الإنسان، التي لا تتجاوب ولا تنسجم مع تطلعاتنا التي حلمنا بها بعد الاستقلال. إن تغيير إفريقيا إلى الأحسن، لن يتحقق في ظل واقع الفرقة والتجزئة وتكريس الحدود المُصطنعة وتأجيج الصراعات القبلية التي تعرفها اليوم شعوب إفريقيا المتناحرة. أما عن الموت فيقول: "لا أخاف الموت، لأنني مؤمن بأن الموت حق على الإنسانية كلها، طيلة حياتي كنت أنظر إلى الموت من موقع الرؤيا بالمعنى الصوفي، التي ترى أن الموت ليس هو الموت الجسدي الذي يتعارض مع الخلود الشعري. وبعض عمرك ما لم تعشه، وما لم تمته وما لم تقله وما لا يقال وبعض حقائق عصرك، أنك عصر من الكلمات وأنك مستغرق في الخيال. *** من قصيدته "من أغاني إفريقيا" نقرأ: يا أخي في الشرق ، في كل سكن يا أخي فى الأرض ، فى كل وطن أنا أدعوك .. فهل تعرفنى ؟ يا أخاأعرفه .. رغم المحن إنني مزقت أكفان الدجى إننى هدمت جدران الوهن لم أعد مقبرة تحكى البلى لم أعد ساقية تبكى الدمن لم أعد عبد قيودى لم أعد عبد ماض هرم عبد وثن أنا حى خالد رغم الردى أنا حر رغم قضبان الزمن فاستمع لى .. استمع لى إنما أذن الجيفة صماء الأذن إن نكن سرنا على الشوك سنينا ولقينا من أذاه ما لقينا إن نكن بتنا ولقينا من أذاه ما لقينا إن نكن بتنا عراة جائعينا أو نكن عشنا حفاة بائيسنا إن تكن قد أوهت الفأس قوانا فوقفنا نتحدى الساقطينا إن يكن سخرنا جلادنا فبنينا لأمانينا سجونا ورفعناه على أعناقنا ولثمنا قدميه خاشعينا وملأنا كأسه من دمنا فتساقانا جراحا وأنينا وجعلنا حجر القصر رؤوسا ونقشناه جفونا وعيونا فلقد ثرنا على أنفسنا ومحونا وصمة الذلة فينا الملايين افاقت من كراها ما تراها ملأ الأفق صداها خرجت تبحث عن تاريخها بعد ان تاهت على الأرض وتاها حملت فؤسها وانحدرت من روابيها وأغوار قراها..! فانظر الإصرار فى أعينها وصباح البعث يجتاح الجباها يا أخى فى كل أرض عريت من ضياها وتغطت بدماها يا اخى فى كل ارض وجمت شفتاها واكفهرت مقلتاها قم تحرر من توابيت الأسى لست اعجوبتها أو مومياها انطلق فوق ضحاها ومساها