قدم د. عمار علي حسن ، الروائي والكاتب السياسي المخضرم، شهادته عن تجربته مع الكتابة الإبداعية مساء أمس، في اليوم الثالث لملتقى القاهرة السادس للرواية العربية . يقول عمار : لا يزال يرن في أذني الصوت الشجي لأبي، وهو يردد مقاطع من سيرة بني هلال، ونحن نكدح معًا في الحقل تحت الشمس الحارقة. كنت أستوقفه ليحكي لي فلا يبخل عليَّ، ووجدته يزيد على السيرة الهلالية بسرد حكاية "شاور وضرغام" و"علي الزيبق" و"أدهم الشرقاوي" وقصص من "ألف ليلة وليلة". وسألته من أين لك بكل هذا، فأخبرني أن رجلاً في قريتنا العزلاء المنسية أجاد القراءة والكتابة في سن مبكرة، لكنه ترك المدرسة، وفتح مقهى صغيرًا، وكان يجذب الزبائن بأن يقرأ عليهم كل ليلة صفحات من كتب السير التي اقتناها، ويقف عند نقطة مشوقة تدفعهم إلى ارتياد مقهاه في الليلة التالية. وخالتي التي تكبرني بسنوات قليلة، كانت مولعة بحكي ما سمعته من حكايات شعبية نتداولها في الصعيد، فكنت ألح عليها بأن تقصص عليَّ كل ما استقر في عقلها ووجدانها، فجادت عليَّ بكل ما لديها سعيدة بالبهجة التي تسكن عيني وأنا أتابعها في صمت ولهفة، محاولاً أن أرسم صورًا لما تنطق به. بعد سنوات اعتمدت على نفسي فتابعت بشغف "إذاعة الشعب" بانتظام حيث يشدو شاعر الربابة "جابر أبو حسين" بسيرة بني هلال، ونبشت في جوال الكتب القديمة التي كان جدي لأمي، وهو بقال، يحضره كل شهر لصناعة قراطيس الشاي والسكر واللب والسوداني، فوجدت بعض ما يقرأ، وللمصادفة كان أول كتاب قرأته وأنا في العاشرة من عمري عبارة عن رواية أجنبية مترجمة، منزوع غلافها وصفحتها الأولى التي تحمل اسم المؤلف وعنوان الرواية، لكنني لم أهتم إلا بالحكاية التي كانت كاملة. في مدرستي الابتدائية لم تكن هناك مكتبة لكن حين التحقت بالمدرسة الإعدادية بقرية البرجاية، مركز المنيا، ذهبت إلى المكتبة في أول أيامي بها، وكان أول ما استعرته منها هو سيرة "حمزة البهلوان"، وعلى ضخامتها قرأتها في أسبوع من ولعي بها، ثم بدأت رحلة استعارة روايات كبار الكتاب المصريين والعرب، حتى أنني قرأت لكثيرين منهم كل ما كتبوا تقريبًا. هكذا بدأت علاقتي بالرواية قارئًا، أما كاتبًا فلهذا قصة أخرى. فقد كنت معروفًا أيام الجامعة بين زملائي بأنني ممن ينظمون القصيد، عموديًا وحرًا، ولا أزال أحتفظ في أوراقي القديمة بقصائد بهتت حروفها، لكن لم تفارق وجداني ومخيلتي، إذ سرعان ما انداحت في أعمالي النثرية والسردية، التي أحاول ألا أتخلى فيها عما منحني الشعر إياه من ضرورة الولع بالبلاغة والجمال والمفارقة وصناعة الدهشة والقدرة على إطلاق الخيال والتخييل. لكنني فهمت فيما بعد أنني كتبت الشعر في السن التي يكتب فيها كثيرون شعرًا، ليعبروا عما يجيش بصدورهم، ويجول بخواطرهم. فرغم أن ما قرضته كان يروق لزملائي في الجامعة والمدينة الجامعية، فإنني لم ألبث أن انتقلت إلى السرد، وتمنيت أن يكون أول كتاب لي يظهر عليه اسمي هو رواية. وكنت أستعيد طيلة الوقت نبوءة مدرس اللغة العربية في الصف الثاني الإعدادي، حين قال لي: ستصير كاتبًا، فحدد لي في جملة قصيرة معالم طريقي. أتذكر أنها كانت "حصة تعبير" وكان الموضوع الذي كلفنا به هو "نصر أكتوبر"، فكتبت ما طلبه مني وسلمته إياه كما فعل زملائي، فجاء بعد يومين ووزع الكراسات علي الجميع ما عداني، ثم نادي اسمي، فخرجت إليه. وقبل أن أنطق ببنت شفة فاجأني غاضبًا: - افتح يديك. وكانت العصا ترقص في يمينه، لكنني سألته مندهشًا عن سبب عقابي، فقال: - من كتب لك هذا الموضوع؟ أجبته: أنا. لم يصدقني، لكنه جاراني: - نعم، أنت كتبته، لكن نقلته من أي مجلة أو صحيفة؟ أجبته في ثقة: لم أنقله، بل كتبته. نظر إليَّ مستغربًا وقال: - كيف أصدقك؟ قلت له: يمكن لحضرتك أن تطلب مني كتابة أي موضوع تريده من الآن حتى نهاية الحصة، ثم تقارن بين الاثنين، فإن وجدت ما كتبته الآن ضعيفًا عما كتبته من قبل فساعتها أكون قد نقلته أو كتبه غيري لي. هز رأسه مبتسمًا، وأزاح العصا جانبًا، وقال: - أنا صدقتك. ثم أطلق نبوءته التي قيدني بها، وظللت طيلة السنوات اللاحقة أدرس وأقرأ كل ما يدفعني إلى أن أحقق ما بشرني به، ولهذا اخترت أن أدخل القسم الأدبي في الثانوية العامة، رغم أنني كنت أيضًا متوفقًا في المواد العلمية البحتة. ويظن كثيرون أن كتاباتي الأدبية لاحقة على انشغالي بالبحث في العلوم الإنسانية عامة، والاجتماع السياسي على وجه الخصوص، لكن العكس هو الصحيح، فأول ما نشر لي كانت قصة قصيرة احتلت الصفحة الأخيرة من جريدة "الشعب"، وأول رزق أكسبه من الكتابة كان عن قصة أيضًا، بعد أن فزت بالمركز الأول في مسابقة أدبية لجامعة القاهرة سنة 1988، وأول محاولة لنشر كتاب كانت مجموعة قصصية ذهبت بها إلى سلسلة "إشراقات أدبية" التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، لكنها لم ترَ النور، وتخليت عنها تمامًا، حين كتبت ما هو أفضل، واعتبرتها فرصة للتجريب والتجويد، وأول جائزة أحصل عليها كانت عن قصة. وإذا كانت الظروف قد دفعت كتابي "الصوفية والسياسة في مصر" كي يظهر أولاً سنة 1997، فإنني سرعان ما نشرت مجموعتي القصصية الأولى "عرب العطيات" 1998 وبعدها بثلاث سنوات صدرت روايتي الأولى "حكاية شمردل". وبلغ انشغالي بالأدب حدًا كبيرًا لدرجة أنني طوعت له دراستي للدكتوراه، فجعلتها عن "القيم السياسية في الرواية العربية" مدفوعًا بالرغبة في معرفة الرواية بنصها ونقدها أكثر من معرفة السياسية بتصاريفها وأحوالها. وبعدها توازى إنتاجي الأدبي مع العلمي، لكني لم أقصر أبدًا في الأول، بل جعلته هو الأساس ولو أنه يعينني على العيش ما كتبت غيره، فحتى الآن لي سبع روايات هي "حكاية شمردل" و"جدران المدى" و"زهر الخريف" و"شجرة العابد" و"سقوط الصمت" و"السلفي" و"جبل الطير" وشرعت منذ مدة في كتابة رواية ثامنة، بينما كتبت أربع مجموعات قصصية هي "عرب العطيات" و"أحلام منسية" و"التي هي أحزن" و"حكايات الحب الأول" وهناك خامسة في الطريق بعنوان "أخت روحي" عبارة عن أقاصيص قصيرة جدًا، وهناك دراسة بعنوان "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" وأخرى نقدية هي "بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ". ورغم ما يقال عن أننا نعيش "زمن الرواية" فإنني أتعامل مع فن القصة القصيرة بولع وتقدير، ومهما كان الإقبال على قراءة الرواية أعرض، فإنني لن أكف عن كتابة القصة حتى آخر مشواري الإبداعي. ومهما قيل إننا نعيش "زمن الرواية"، فهذا لا يعني أن الألوان الأخرى من الفنون السردية ستنزوي ويطمرها النسيان أو الإهمال، إنما ستعيش تحت كنف الرواية، وقد يأتي يوم وتعاود صعودها من جديد، وأكبر دليل على هذا هو الاتجاه إلى تشجيع "الأقصوصة القصيرة جدًا" في عالم تويتر الذي يميل إلى التكثيف والاختزال والذهاب إلى المعنى من أقرب طريق. في كل مرة أبدأ كتابة رواية جديدة يرد على ذهني شخصان، أبي في حقله، وسيدة الحافلة. الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهي الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقًا إلى البذور لينبت الزرع البهي. ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن العدم إلى الوجود، أو على الأقل من اليباب إلى العمار. أما السيدة فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة ركبتها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير، كنت طالب دراسات عليا أعد أطروحتي للماجستير، وقد جمعت مادتي العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابني كسل فقعدت أسابيع عن البدء في الكتابة، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطًا منسوجًا بإحكام. وقفت أتابع دأبها في شغف عميق، وتعلمت منها أن تراكم القليل يصبح كثيرًا، وتتابع الصغير يجعله كبيرًا. وقلت لنفسي وأنا واقف أمامها مشدوهًا: حرف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير فصلاً، وفصول تتابع تخلق كتابًا. ومن يومها كلما بدأت في كتابة رواية تأتيني صورة هذه السيدة، ممتزجة بصورة أبي مع فأسه أمام الأرض اليباب. ومن لم يقرأ كل أعمالي يظن أن الحضور السياسي يطغى عليها، وهذه قراءة بيوجرافية مبتسرة طالما حذر منها "ميلان كونديرا"، فأعمالي الروائية والقصصية تدور حول محاور أو مسارات أو مضامين متنوعة، ف"حكاية شمردل" روايتي الأولى هي تجربة أليمة لشاب فقير مريض مع ملابسه البسيطة الضائعة، ورواية "جدران المدى" بطلها الرئيسي شاب يساري يقاوم الفساد لكنه ينهزم ويدفع ثمنًا باهظًا لنبل مقصده وشجاعته، وبطلا رواية "زهر الخريف" شابان، مسلم ومسيحي، كانا صديقين يقاومان اللصوص في قريتهم العزلاء المنسية ثم يذهبان للتجنيد ويحاربان في أكتوبر 1973 لاستعادة الأرض السليبة، فيعود أحدهما شهيدًا، ويضيع الثاني في الصحراء الشاسعة لتبدأ رحلة البحث عنه صانعة مضمون الرواية ومفارقاتها وبكائيتها. ورواية "شجرة العابد" هي فانتازيا ممزوجة بواقع يجري في نهاية العصر المملوكي، ورواية "سقوط الصمت" هي تصوير جمالي ونفسي واجتماعي لمشاهد ثورة يناير وشخصياتها الفاعلة. كما أن مجموعتي القصصية "عرب العطيات" تدور في الريف والمدينة وأغلب أبطالها من المهمشين، وأبطال مجموعة "أحلام منسية" كلهم من الأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطرابات نفسية وعصيبة وإعاقات ذهنية، وشخصيات مجموعة "التي هي أحزن" متنوعة من الريف والمدينة أيضًا، وبها قصة طويلة تحمل عنوان المجموعة عن سيدة رومانسية تعاني مع زوجها المتبلِّد الغشوم فتطلب الطلاق منه لتبدأ مأساة جديدة، وعلى وشك الصدور هناك أقاصيص بعنوان "حكايات الحب الأول" هي عبارة عن مائة قصة وأقصوصة شاعرية عن تجربة الحب الأول. ورواية "جبل الطير" التي انتهيت منها أخيرًا عالمها يغوص في التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي، وتخلط الواقع بالخيال. هذا معناه أن هناك تنوعًا في اهتماماتي الأدبية، وأن قضية "الإسلام السياسي" لم تظهر بكثافة سوى في رواية "السلفي" وهناك فقط شخصية من تنظيم "الجماعة الإسلامية" في رواية "جدران المدى". لكن صوت السياسة الزاعق، كالعادة، وألقى غبارًا كثيفًا على تجربتي الأدبية، إلا أنه أخذ ينقشع، حين تواصلت الخيوط المتوازية في مسيرتي الكتابية حتى الآن. أنا بالأساس أديب درس السياسة وكتب فيها وبحث، ومارسها على الأرض من خلال انخراطه في حركات سياسية واجتماعية عدة على مدار السنوات الفائتة. وأقول دومًا: لو أن الأدب يكفي ما أتعيش به حتى عند حد الكفاف ما كتبت غيره، لكنه منح كتابتي السياسية والعلمية حيوية وخصوبة، ومنح كتابتي الأدبية أفقًا وعمقًا لا أنكره، لأنه ساهم كثيرًا في فهمي للمجتمع والعالم. ولا يجب أن ننسى ما قاله نجيب محفوظ: "لا يوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسي في ثوب فني" أو كلام توني موريسون: "السياسة كامنة في كل نصوصنا شئنا أم أبينا"، ولا يجب أن ننسى أن يوسا البيروفي الحائز على جائزة نوبل يعرف نفسه بأنه "ناشط سياسي وصحفي وأديب"، وقد ترشح للرئاسة في بلاده وخسر، وفاتسلاف هافيل المسرحي التشيكي صار رئيس جمهورية في تشيكيا. لا أحتاج إلى الأدب لأختبئ فيه وأبث آرائي السياسية، إذ أكتبها وأقولها جهارًا نهارًا، ولم أتهيب أو أتحسب يومًا، ومقالاتي أيام مبارك والإخوان شاهدة على ذلك. ظني أن الأدب هو الأبقى، لذا أنحاز إليه بكل كياني، وأعطيه من وقتي الكثير والكثير، دون أن أتخلَّى عن دوري في الحياة العامة، رغم أنه يحدث جلبة ثير غبار كثيف يغطي أمام أعين البعض على كتاباتي الأدبية أو هكذا يريدون، ويجلب أحيانَا عليَّ متاعب من كتاب ونقاد يختلفون معي في توجهي السياسي، فيعاقبونني بهذا في حديثهم أو تقييمهم لأعمالي الروائية والقصصية، سواء أفصحوا عن ذلك أو كتموه، وإن كنت لا أعدم كثيرين من العدول الذي يحتفون بأعمالي الإبداعية، فيتحدثون ويكتبون عنها، وهم غاية في الاقتناع والامتنان. الأدب كان خياري الأول، وهو خياري الأخير، وما بين البداية والنهاية هناك أشياء كثيرة أتمنى ألا تذهب سدى، وتروح بلا جدوى. الكتابة عندي هي الحياة، ولو مر وقت طويل دون أن أكتب نصًا أدبيًا أشعر بتوتر شديد، ولذا فهي أيضًا الشفاء.