بعد أيام قليلة من استلام الحكومة التونسية الجديدة، برئاسة الحبيب الصيد، مهامها يوم الجمعة الماضي، اندلعت احتجاجات في عدد من المدن الجنوبية القريبة من الحدود الليبية. ذروة هذه الاحتجاجات شهدتها مدينة "ذهيبة"، حيث اتهم محتجون الشرطة بإطلاق الرصاص ضد متظاهرين، مساء الأحد الماضي، ما أدى إلى مقتل شاب وإصابة أكثر من 20 بجروح، بينهم ستة بأعيرة نارية، الأمر الذي رد عليه أهالي محافظة تطاوين ومدينة بنقردان (في محافظة مدنين - جنوب) بإضراب عام أمس الأول الثلاثاء وبإغلاق المعابر الحدودية مع ليبيا. والمطلب الأساسي لهؤلاء المحتجين هو إلغاء ضريبة جمركية فرضتها الحكومة السابقة، برئاسة مهدي جمعة، منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على الأجانب الوافدين إلى أراضيها والمغادرين عبر معبر رأس جدير، بمن فيهم المواطنون الليبيون، وهي 30 دينارا تونسيا (حوالي 15 دولارا أمريكيا)، وهو ما رد عليه الطرف الليبي بالمثل عبر فرض ضريبة جمركية مضاعفة، أي ما يعادل 30 دولارا، على التونسيين الوافدين إلى ليبيا. وعن تداعيات تلك الضريبة، يقول أحمد العماري، النائب في مجلس الشعب (البرلمان) عن محافظة مدنين الحدودية، عضو لجنة التفاوض مع الجانب الليبي، إن "هذه الضريبة تحرم عدد كبير من أبناء الجهة (المنطقة) الذين يتوجهون يوميا إلى العمل في ليبيا، فهم غير قادرين على دفع الضريبة يوميا؛ ما يزيد من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للجهة التي تعاني منذ عقود من حرمان من التنمية، ومن التهميش". وحول مستجدات التفاعل الحكومي مع الأزمة، يجيب العماري، في تصريحات لوكالة الأناضول،: "سمعنا نوايا وإعلانات حسنة مفادها أن حكومة الصيد ستتراجع عن هذه الضريبة، ولكن إلى الآن لم نر شيئا على الأرض.. وبالتالي هناك ترقب حذر". وتكاد تجمع القوى السياسية والنقابية في تونس على ضرورة تراجع الحكومة الائتلافية، بقيادة حزب "نداء تونس" (علماني)، عن الضريبة الحدودية. وبشأن الاحتجاجات الحدودية، يرى المحلل السياسي علي اللافي، من منطقة بن قردان الحدودية، أن "السبب المباشر هو الضريبة المفروضة مؤخرا، لكن هناك أسباب أعمق بكثير من هذا، منها أن هذه المنطقة تعتبر نفسها مهمشة مند استقلال البلاد (عن فرنسا عام 1956)". وهذا التهميش، بحسب اللافي، في حديث مع الأناضول، "كانت بدايته سياسية؛ لأن هذه المنطقة كانت معقلا من معاقل اليوسفية، نسبة إلى صالح بن يوسف، المعارض السياسي الأبرز لبورقيبة (الحبيب بورقيبة) في الحركة الوطنية التونسية زمن استقلال تونس عن فرنسا سنة 1956، وعرف الجنوب ظلما سياسيا كبيرا واعتقالات عديدة لأهم القيادات السياسية التي أفرزها نظرا لانتمائها للتيار اليوسفي". ومضى قائلا إن "الجنوب عانى كثيرا من التهميش الاقتصادي، ومن الحرمان من التنمية، ومن نقص الخدمات العمومية، إلى أن وصل الأمر أن عددا ليس بالهين من سكان هذه المناطق الحدودية صاروا يعتقدون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية". كل هذه المعطيات، يضيف المحلل السياسي التونسي، "جعلت المناطق الحدودية مع ليبيا تعيش بعيدا عن الدولة المركزية، وتوجه سكانها إلى الحدود بحثا عن رزقهم من خلال التجارة البينية مع ليبيا أو العمل في ليبيا، خاصة وأن العاصمة الليبية طرابلس تبعد ما يقارب من 200 كلم عن الحدود، بينما تبعد العاصمة تونس حوالي 600 كلم، وهو ما يفسر كثرة الاحتجاجات في هذه المناطق حتى قبل الثورة"، في إشارة إلى ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، التي أطاحت بالرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، يوم 14 يناير/ كانون الثاني من العام التالي. وحول تفاعل الحكومة الجديدة مع هذه الأزمة، يرى اللافي أن "البيان الحكومي يفيد بأنه سيكون هناك تراجعا عن هذه الضريبة، وهي محاولة لاستيعاب الاحتجاج، لكن هناك بطء كبير في التفاعل العملي مع الأزمة، فحتى الآن لم تُلغ هذه الضريبة لأسباب بيروقراطية، ولعدم توفر التفاعل السياسي المطلوب، ولكن هذا لن يعالج المشكل الرئيس، وهو التهميش الكامل لهذه المناطق". مشاكل الجنوبالتونسي، بحسب الإعلامي والمحلل السياسي، نصر الدين بن حديد، هي "مشاكل هيكلية وتاريخية متعلقة أساسا بالتهميش وبمنوال التنمية المعتمد، الأمر الذي حول أنشطة اقتصادية غير قانونية(مثل التهريب عبر الحدود) إلى أنشطة متعارف عليها، زد على ذلك أن الضريبة التي وضعت تم تنزيلها (تطبيقها) بشكل غير مدروس، وبدون مراعاة لأثارها الاقتصادية والاجتماعية على المناطق الحدودية، واليوم نرى أن كلفتها أكثر بكثير مما كان ينتظر أن توفره، والذي قدرته مصادر حكومية ب40 مليون دينار سنويا (حوالي 20.7 مليون دولار). ويتابع بن حديد بقوله، في حديث مع وكالة الأناضول، إن "الدولة اليوم تتراجع تحت تأثير الاحتجاجات العنيفة، وهو ما من شانه أن يمس من هيبة الدولة، وأن يبعث برسائل مفادها أن الحل للمشاكل الاجتماعية والتنموية هو الحراك العنيف، وفي الوقت نفسه فإن بن حديد أن رد فعل قوات الأمن تجاوز حدود المعقول و هو أمر ثابت وهذا الأمر سيزيد من توتر الوضع". ملخصا الأزمة الحالية يقول ميكائيل العياري، وهو باحث في "مجموعة الأزمات الدولية"، إن "التهميش الذي تعيشه هذه المناطق الحدودية خلق نوعا من التجارة الموازية (غير الشرعية)، والدولة تشعر أنها تفقد عائدات مهمة جراء هذه التجارة؛ ما يدفعها إلى فرض ضريبة لتعويض جزء من هذا التهرب الضريبي، ولكن هذا ليس دائما هو الحل، والحل كذلك ليس في محاربة التجارة الموازية؛ لأن هذا لا يمكن إلا أن يزيد من هشاشة الوضع الاجتماعي في المنطقة". أما عن الحل، فيرى العياري، في حديث مع وكالة الأناضول، أنه "على الدولة أن تعود إلى استيعاب هذه المناطق بعيدا عن الحلول الأمنية التي سبق وأن فشلت، من خلال الاستثمار فيها، واستيعاب التجارة الموازية من خلال سوق حرة مثلا، والعمل على مشاريع صناعية مشتركة بين الدولتين (ليبيا وتونس) على الحدود، والاستفادة من الدينامكية الحدودية اقتصاديا قتصايا لمزيد من التنمية في الجهة".