في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين قوات النظام السوري الأسدي وبين المعارضة في منطقة معسكر وادي الضيف، ونجحت المعارضة في تحريره كاملا بعد انسحاب قوات الأسد من جميع الحواجز، يسعى المبعوث الدولي لحل الأزمة السورية ستيفان دي ميستورا إلى ردم الفجوة بين كتلتين في الاتحاد الأوروبي إزاء التعامل مع خطته ل "تجميد" القتال في سوريا بدءاً من حلب شمالاً والتخفيف من حدة التحفظات الأمريكية على الخطة المدعومة من دول أوروبية كبرى. ترتكز خطة دي ميستورا على تجميد القتال والعمليات العسكرية بدءاً من حلب شمال سوريا وتسهيل دخول المساعدات وضخ استثمارات عاجلة لتغيير حياة الناس على أمل إيجاد "حيز سياسي" من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني، وصولاً إلى عملية سياسية "على أساس بيان جنيف" الصادر في منتصف العام 2012. ولكن بعد جولات من حوار دي ميستورا مع المعارضة، باتت المحصلة تكاد تكون صفراً لأن المعارضة السورية طلبت ضمانات ربما مكتوبة لتنفيذ الاتفاق وأن يكون هناك قرار ملزم من مجلس الأمن الدولي وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل تشابك الصراع وامتداده في شتى أنحاء سوريا الآن. كما أن الموقف الدولي الأمريكي والأوروبي يزيد من صعوبة تطبيق الخطة وذلك في ضوء الاعتبارات التالية : أولاً، الانقسام الواضح في الموقف الأوروبي ذاته ، إذ أن بعض الدول الأوروبية يدفع باتجاه تعيين مبعوث أوروبي خاص إلى سوريا من أجل الانخراط الأوروبي المستمر وتضييق الفجوة بين المواقف الأوروبية والتعبير عن موقف موحد إزاء هذا الملف ، وكان آخر تجليات الانقسام الأوروبي دعم السويد وإيطاليا الواضح لخطة دي ميستورا الذي يحمل جنسية هذين البلدين من جهة مقابل تشكيك من قبل دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، ناهيك عن أن دولاً كبرى بينها بريطانيا دفعت بقوة لمناقشة الملف السوري في شكل منفصل والوصول إلى "استراتيجية موحدة" بدلاً من مناقشته ضمن "استراتيجية العراق" ومحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). ثانياً: المحاولة الأمريكية لإضفاء المشروعية على خطة ميستورا وذلك تحقيقاً لمصالحها مع إيران بخصوص الملف النووي، ومن أجل ذلك قادت واشنطن تحركا مع دول أوروبية كبرى للوصول إلى موقف موحد من خطة دي ميستورا، حيث توصلت إلى ورقة مشتركة تتضمن "ترحيباً" ب "مبادرته الهادفة إلى إيقاف سفك الدماء ودعم عملية سياسية شاملة هدفها الوصول الى مرحلة انتقاليّة سياسيّة بالاستناد إلى تنفيذ كامل لبيان جنيف" الذي تضمن تشكيل "هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة بقبول متبادل بين الحكومة السورية والمعارضة". وأكدت واشنطن وحلفاؤها في الورقة المشتركة على ضرورة تقديم توضيحات لتسلسل عملية التجميد مع المسار السياسي وتحديد المراحل التدريجيّة للمبادرة بين المستوى المحلي ومواصلة عملية سياسية على المستوى الوطني وان يكون الهدف النهائي لتحرك دي ميستورا إنجاز عملية وطنيّة هدفها تطوير تركيبة حكم شاملة. إضافة إلى تأكيد هذه الورقة على ضرورة التزام القانون الدولي الانساني وأن يكون أيّ اتّفاق محلي مستقلاً عن المفاوضات حول تجديد قرار مجلس الأمن في الأممالمتحدة رقم 2165 الذي يتضمن ادخال المساعدات الانسانية ووقف القصف وبحث المسار السياسي. من الواضح أن واشنطن وحلفاءها ركزت على "إجراءات بناء الثقة"، التي تعتبر أحد العناصر الرئيسية في خطة دي ميستورا، بحيث تتضمن بوضوح "إنهاء قصف الجيش النظامي لمدينة حلب" والإفراج عن معتقلين، وأن تتضمن آلية مراقبة التجميد دوراً للنشطاء المحليين مع النظر في احتمال الإدخال التدريجي لمراقبين دوليين مدعومين من الأممالمتحدة ومناقشة احتمال اصدار قرار صادر من مجلس الأمن. ثالثاً: أن خطة دي ميستورا تنطلق مما انتهي إليه اتفاق جنيف 1 ، وهو ما لا يأخذ في اعتباره تغيرات المشهد السياسي الجديد في سوريا الآن،إذ يمكن القول أنه بعد سنتين ونصف السنة منذ إعلان بيان جنيف الأول ولم يتم تطبيق أي جزئية منه في القضية السورية، على الرغم من أن جميع اللاعبين الرئيسيين، السوريين والدوليين، إما أعلنوا موافقتهم على بيان جنيف أو بالحد الأدنى لم يبدوا اعتراضهم عليه. خاصة أن هذا الاتفاق تم التوصل إليه من دون أي مشاركة سورية، وبالتالي فإن تطبيقه كاملاً سيبقى رهناً بالتوافق الدولي وهو أمر بعيد المنال. تحديات تعوق التنفيذ ثمة عدة تحديات ومعوقات تحول دون تنفيذ خطة دي ميستورا على أرض الواقع ، الأمر الذي يجعلها ربما تلاقي نفس مصير خطة أنان ذات البنود الستة والتي في مقدمها وقف أي إطلاق للنار وهذه التحديات هي: أولاً: يرى خبراء ومحللون سياسيون أنه خلال السنتين ونصف السنة الماضيتين تغير المشهد السوري بشكل كبير، بحيث لا يمكن أن يظل الحل الذي اقتُرح في يونيو 2012 كافياً وقادراً على مواكبة التعقيدات الجديدة، فقد تحول المشهد تدريجاً إلى صراع بالغ التعقيد، يتشابك فيه الصراع السياسي مع الأهلي المسلح والحرب بالوكالة عن لاعبين إقليميين ودوليين، بالإضافة إلى الإرهاب الدولي، وهجمات التحالف ضده. هذه الحروب أنهكت الاقتصاد السوري تماماً وأبرزت لاعبين جدداً لم يكن لهم دور أو قيمة تذكر قبل الأزمة، وبالتالي يستمد معظم الفاعلين في الأزمة نفوذهم من استمرارها وليس من انتهائها. كل هذه التعقيدات وغيرها ولَّدت ديناميات ذاتية للصراع كفيلة بجعله يستمر بدوافع داخلية وإن افترضنا أن التوافق الدولي والإقليمي قد تم الوصول إليه. ثانياً:كما أن وقف إطلاق النار الذي أشار إليه بيان جنيف لم يعد بالإمكان تحقيقه الآن فقط عن طريق اتفاق واحد على مستوى القمة، فقد تشظَّى اللاعبون العسكريون في المعارضة إلى درجة كبيرة أيضاً، وأصبح كل منهم يسيطر على منطقة معينة يرفض التخلي عنها. هذا الغياب في مركزية القرار العسكري يظهر أيضاً حتى في جهة النظام، فقد أثبت الواقع أن القوات الموالية غير الرسمية كثيراً ما تعاكس إرادة دمشق إذا لم تتفق مع مصلحتها المحلية، خصوصاً أن هذه القوات بدأت تعتمد بشكل متزايد على الدخل المحلي الذي تدره الأزمة، مثل الرسوم على الحواجز، وهذا الدخل يفوق بأضعاف رواتبها، وبالتالي فإن مصلحتها غالباً تكون في عرقلة محاولات الوصول إلى وقف إطلاق نار أو رفع الحصار عن مناطق محاصرة. ثالثاً: يرتبط بالنقطة السابقة أن الحديث على الفاعل المحلي ودوره الجوهري لا يعني أبداً انعدام دور بقية الفاعلين على المستوى السوري والإقليمي والدولي، بل إن دور كل من هؤلاء هو شرط لازم وغير كاف للحل، فكما أن المقاربة الدولية الإقليمية وحدها حتى لو نجحت لن تكون كافية الآن لإنجاح الحل، فإن المقاربة المحلية وحدها أيضاً غير كافية بالضرورة، خصوصاً أن الكثيرين من اللاعبين المحليين هم عرضة بشكل كبير للتدخلات الخارجية التي يمكن أن تحاول إفشال أي اتفاق يتعارض مع مصلحتها. رابعاً: أن خطة دي ميستورا غير واضحة المعالم بالشكل الكافي ولا تجمع بين الحل السياسي ورغبة النظام في التشارك على السلطة بجانب الحل الإنساني، وهذان المساران ليس بمنفصلين ولا ينفي أحدهما الآخر ، لكن الاستمرار بأحدهما دون الآخر لا يؤدي الى تصور أي تغيير ملحوظ للوضع الإنساني في سوريا ، فمن دون إرادة مركزية خصوصاً من النظام السوري لإنهاء حال الحرب بهدف الدخول في حل سياسي ، فإن أي اتفاق محلي لوقف النار يمكن أن يكون مجرد تكتيك يسمح للأطراف العسكرية بالتقاط أنفاسها من أجل إعادة الانتشار أو تكثيف الهجوم العسكري في مناطق أخرى، كما أنه من دون حل سياسي فإن الإدارة السياسية للبلاد ستظل نفسها، وهي إدارة أخذت المشهد بشكل مضطرد حتى الآن باتجاه التأزيم وليس الحل. ويبقى القول أن خطة دي ميستورا ربما تشغل الرأي العام العربي والدولي لبعض الوقت ولكنها لاستنزاف المزيد من الوقت واحتساب وقت مستقطع حتى تتجلى مصالح كل أطراف الأزمة بشكل تتشابك فيه كل خيوط ملفات الأزمات في الشرق الأوسط.