فيما تتصاعد حرب الرموز والدلالات التي تتعرض لها مصر، فإن المصريين يرفضون "إعادة إنتاج الفتنة الكبرى" و"التلاعب بالاستعارات التاريخية" مدركين بفطرة سليمة أن هذه الحرب في جوهرها هي حرب "التكيف مع الأكاذيب" التي ترمي لتوهين دور وطنهم ومكانته وتترصد خطى تقدمه وجهود نموه. وإذ وصف بعض الكتاب مطلقي دعوة رفع المصاحف "بالخوارج الجدد" فإن هناك أيضا من يؤكد أن السواد الأعظم من شعب مصر بتدينه ووسطيته لايمكن أن ينزلق "لمستنقع إعادة إنتاج الفتنة الكبرى" التي شكلت من قبل لحظة من أكثر اللحظات حزنا في تاريخ المسلمين. وكانت مشيخة الأزهر الشريف قد حذرت من دعوة رفع المصاحف مؤكدة أنها "فتن يتولى نشرها أناس تخصصوا في الاتجار بالدين وتفننوا في تمزيق الأمة شيعا وأحزابا باسم الشريعة المظلومة أو الإسلام الذي شوهوه". وشدد الأزهر الشريف على أن هذه الدعوة "ليست إلا أحياء لفتنة كانت أول وأقوى فتنة قصمت ظهر أمة الإسلام ومزقتها وما زالت آثارها حتى اليوم"، فيما لفت الشيخ أحمد ترك مدير بحوث الدعوة بوزارة الأوقاف إلى أن دعوة رفع المصاحف "تستدعي الصورة الذهنية للخوارج". ووفق وكالة أنباء الشرق الأوسط، قال الشاعر والكاتب الكبير فاروق جويدة إنه أصبح من الضروري على الدول العربية وضع خطة لمواجهة الارهاب الفكري، مؤكدا أن "الجوانب الفكرية والثقافية والسلوكية في قضية الإرهاب تحتاج إلى دراسات وافية بعد أن تحولت إلى لعنة تطارد الشعوب والأوطان". وضمن تساؤلات وأسئلة وجهها "لأصحاب الدعوات المغرضة لرفع المصاحف في مظاهرات يوم 28 نوفمبر"، قال جويدة :"هل من الإسلام أن تنشروا الفتن بين أبناء الوطن الواحد وهل من الدين أن تخرجوا وتمارسوا الإرهاب ضد الناس"؟!. وإذا كانت مصر تواجه "حربا نفسية" فإن ثمة حاجة ثقافية لتحليل هذه الظاهرة والتعرف على بنيوية مقوماتها وعلاقاتها وآلية حركاتها ومتغيراتها حتى يمكن التعامل معها على النحو الذي يدرأ شرورها. وهذه الحرب "الجديدة / القديمة" تتلاعب برموز وأسماء ومسميات لها قدسيتها واحترامها الجليل في الضمير الجمعي للمصريين مثل "بيت المقدس" أو "رابعة العدوية" وهي لاتتورع عن توظيف التراث بصورة مشوهة وتوليد معان جديدة لهذه الرموز بما يتوافق مع أهدافها المعادية للكتلة الغالبة من المصريين. والأمر قد يعيد للأذهان على نحو ما حرص كثير من الأنظمة الشمولية في المنظومة الشيوعية السابقة والتي غابت فيها الديمقراطية على تضمين كلمة "الديمقراطية" في مسمياتها وكأنها تشعر بعقدة نقص فادحة وتحاول تعويضها برمزية الاسم دون أن تفلح في تغطية الأثم!. ومن العلامة التي خرجت أصلا من لدن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لتسمى ظلما وعدوانا باسم "علامة رابعة" إلى "جماعة بيت المقدس" التكفيرية التي تسفك الدم الطاهر وتشن هجمات غادرة مستهدفة جند مصر تتبدى طبيعة حرب الرموز والسعي الحثيث لتزوير الدلالات والتلاعب للتأثير على اللاوعي. وبوصفها أهم مرجعية علمية في الأزهر الشريف، حذرت هيئة كبار العلماء برئاسة الدكتور احمد الطيب شيخ الأزهر من الزج بالمصاحف في الصراعات السياسية والحزبية ، مؤكدة ضرورة الحفاظ على حرمتها و قدسيتها في العقول والقلوب. كما حذر نادر بكار مساعد رئيس حزب النور المصريين من الانسياق لدعوات التظاهر برفع المصاحف، معتبرا أنها "ستار لأشياء اخطر ترتب في الخفاء" فيما اتهم أصحاب هذه الدعوة "بتعمد الاهانة للمصحف الكريم". وكان الشيخ احمد ترك قد اعتبر أن "هناك مؤامرة كبرى تحاك ضد مصر" فيما قال الدكتور محيي الدين عفيفي الأمين العام الجديد لمجمع البحوث الإسلامية إن "قوى الظلام والتخريب تتاجر بالقرآن". وليس من قبيل الإسراف في نظرية المؤامرة الإشارة لدراسات مثل الدراسة الشهيرة للمستشرق وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون الأمريكية عن استحداث مزيد من الكيانات في منطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية ومذهبية وهو الذي كان المفكر الجزائري الراحل محمد اركون يصفه "بالمفتي الكبير للغرب". وبرنارد لويس الذي يرى أن العرب والمسلمين "فاسدون مفسدون وفوضيون بالسليقة" هو منظر مخطط تفكيك العالمين العربي والإسلامي وإعادة رسم خارطة هذين العالمين عبر تفجير الدول الحالية بالاقتتال الداخلي والاحتراب الأهلى لأسباب دينية وطائفية ومذهبية وبحيث تقوم الكيانات الجديدة على أسس عرقية وطائفية وعشائرية بدلا من الأسس الوطنية والقومية. ومصر شأنها شأن بقية دول المنطقة لم تكن بعيدة عن هذا المخطط التفتيتي الآثم والذي استمد زخما من مفاهيم لاتقل شرا مثل "الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الجديد" ومحاولة "ركوب موجات الربيع العربي وتحويل هذا الربيع إلى جحيم من الفوضى وعدم الاستقرار وتدوير العنف والتراجع الاقتصادي" مع تأويلات منحرفة للعولمة تدفع في اتجاه "التفكيك وتقسيم المقسم وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي" . واللافت في التوجه البحثي لمستشرق شهير مثل برنارد لويس صاحب كتاب :"الحشاشون: الإرهاب والسياسة في العصر الوسيط للاسلام" انه دائم التنقيب في تاريخ المسلمين ولايتورع عن استعارة اللحظات الأكثر حزنا في هذا التاريخ بغرض اعادة انتاجها في الحاضر وهو توجه يتبدى بوضوح في الدعوة الضالة من جانب عناصر ارتضت العمالة عن علم أو جهل "لرفع المصاحف" و"محاولة اعادة انتاج الفتنة الكبرى". واقترح فاروق جويدة على الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية أن تتبنى الجامعة مشروعا لمواجهة الإرهاب الفكري بكل جوانبه الثقافية والإعلامية والتعليمية، مشددا على أن قضية الارهاب الفكري لابد وأن تأخذ اهتماما خاصا في الفترة المقبلة. ومع وضع اقليمي متأزم وفي لحظة مصرية يعتبرها معلقون "لحظة تحول تاريخي استثنائية "وصف الكاتب والمحلل الدكتور محمد السعيد ادريس في جريدة الاهرام الدعوة للخروج والتظاهر برفع المصاحف بعد غد "الجمعة" بأنها "دعوة فئة ضالة عن الشعب المصري بكل قواه الوطنية ولا تعبر عن إرادة الشعب التي اعلنها في ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو باسقاط نظام الفساد والاستبداد والدولة العاجزة الفاشلة الرخوة والظالمة وباسقاط نظام الاخوان الاقصائي ". وقال إدريس إن هذه الدعوة بإعلان نواياها التظاهر برفع المصاحف او برفع المصاحف والسيوف معا تكون قد حكمت على نفسها بأنها "فتنة دموية" وأن من يقومون بها هم من "الخوارج" على إجماع المسلمين والانشقاق عليهم ويريدون تجديد احداث اخطر الفتن التي واجهت أمة الإسلام وشقت وحدة المسلمين واجماعهم منذ حدوثها في خضم معركة "صفين" سنة 37 هجرية التي كانت بين أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ووالي الشام معاوية بن ابي سفيان. وأعاد محمد السعيد ادريس للأذهان مسألة رفع المصاحف حينئذ كانت مقدمة لفتنة شقت وحدة المسلمين منذ ذلك التاريخ وظهرت معها "جماعة الخوارج" الذين صاروا فرقا عديدة وان جمعتهم مواصفات مشتركة من بينها سرعة التكفير للآخرين واسقاط حرمة الدم والعرض والمال. وأشار إلى أن الخروج يوم الجمعة يأتي تنسيقا واستجابة لدعوة تنظيم "داعش" وزعيم هذا التنظيم ابو بكر البغدادي الذي بايعه منذ نحو أسبوعين تنظيم "انصار بيت المقدس" والذي رفع متظاهرو جماعة الاخوان أعلامه وهتفوا له في تظاهراتهم الجمعة الماضية. وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري قد أكد في سياق لقاء مع صحفيين افارقة على أن الارهاب بحاجة لمواجهة عالمية شاملة لاتقتصر على تظيم داعش و"ضرورة العمل على مناهضة الايديولوجية الفكرية التي استطاعت استقطاب المؤيدين في هذه التوجهات المتطرفة مستغلة الدين في تنفيذ اغراضها السياسية". ويرى السياسي والبرلماني السابق الدكتور مصطفى الفقي أن الحرب على الارهاب بحاجة "لنفس طويل وتحول ثقافي ضخم وعملية نوعية كبيرة تؤدي إلى غسيل للعقول وتنقية للأفكار وهذه كلها تحتاج للاهتمام بالثقافة والتعليم والاعلام والمؤسسات الدينية مثل الأزهر والأوقاف ودار الافتاء". وفي سياق التمييز بين المواقف والتصدي لعمليات التلاعب بالتاريخ لاحظ معلقون أن المظاهرات وأعمال العنف في الجامعات لتحقيق مكاسب سياسية لجماعة بعينها أبعد ما تكون عن المظاهرات الطلابية التي بقت في الذاكرة الوطنية المصرية حيث كانت هذه المظاهرات تنطلق من أهداف وطنية مثل الدعوة للاستقلال ورحيل المستعمر أو التعجيل بحرب تحرير سيناء من دنس الاحتلال فيما ضمت كل ألوان الطيف السياسي المصري والجماعة الوطنية. فهي مظاهرات عبرت عن الضمير الوطني المصري في لحظات مفصلية واستحقت الخلود في اعمال ابداعية مثل قصيدة "الكعكة الحجرية" للشاعر الراحل امل دنقل وكانت بريئة مما يحدث في المظاهرات التي ينظمها انصار جماعة الاخوان بالجامعات من تخريب وعنف وتجاوزات مشينة وقطع للطرق وترويع للآمنين ناهيك عن اهانة رموز جامعية. ولعل مغالطات حرب الرموز تتجلى في هذه المظاهرات التي يحاول منظموها الايحاء بأنها امتداد للتراث الاحتجاجي الوطني لطلاب مصر في حين أنها أبعد ما تكون في الواقع والجوهر عن هذا التراث النبيل والمضيء بقدر ما تعبرعن "إشكالية ثقافية" لدى هذه الجماعة التي باتت تنتهج أسلوب "الاستعارات الخاطئة" و"القياس المضلل" وتكفي المقارنة على الصعيد الرمزي بين مظاهرات تحت علم مصر ومن أجل رفع علم مصر على سيناء وبين مظاهرات لم تتورع عن حرق علم مصر!. فالجماعة المأزومة تحاول أن تتخطى أزمتها بالاستعارات الخاطئة وأن تفرض على الواقع مالا ينتمي لتاريخه الحق حتى بات من الحق وصف ممارساتها بأنه "لاتاريخية" حيث "التفكير المتعسف والخارج على السياق لفرض تصور جاهز على واقع لايمكنه قبول هذا التصور". وإذا كان تكرار الأصل موجود فان الجماعة فشلت حتى في هذا التكرار لأنها تعمد لاستعارات خاطئة من الماضي كما هو الحال في محاولتها استعارة مظاهرات الحركة الوطنية الطلابية المصرية في سنوات خلت ولحظات كانت تتطلب هذه المظاهرات تعبيرا عن الضمير الوطني وإشهارا لرفض الهزيمة والتصميم على خوض حرب التحرير واستعادة الأرض المحتلة وكانت "مظاهرات للدفاع عن مصر لا حرق مصر". ويبدو واضحا للمراقب للمشهد المصري أن الحرب النفسية بما تشمله من "حرب الرموز" تتصاعد كلما تحقق تقدم ما على طريق تنفيذ خريطة الطريق مثل الانتهاء من صياغة مشروع الدستور أو اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية. وحول ما تردد من أنباء حول اعتزام بعض عناصر جماعة الإخوان تشكيل "حكومة منفى" كان المحلل البارز الدكتور أسامة الغزالي حرب قد أوضح أن"المفارقة هنا أن حكومة المنفى تعبير يطلق في الأغلب على تلك الحكومة التي تتمتع بالشرعية في بلد وقع تحت الاحتلال الأجنبي ولا تتمكن من ممارسة مهامها على أرض بلادها فتلجأ للإقامة في الخارج مؤقتا مثلما حدث بعد الاحتلال النازي لبلدان أوروبية عديدة". وأكد أسامة الغزالي حرب على أن "هذا الوضع يختلف بداهة عن الاخوان الذين تم لفظهم ونزع شرعيتهم بواسطة ثورة 30 يونيو وما أعقبها من توافق القوى الوطنية والثورية كلها على خارطة المستقبل التي انجزت أولى مهامها بوضع مشروع الدستور الجديد تمهيدا للاستفتاء العام عليه". وفيما لات خفي رمزية ودلالات مصطلح "حكومة المنفى" في سياق الحرب النفسية وحرب الرموز فان التنظير الثقافي يصل الى استحالة الفصل بين الرموز والواقع اليومي للانسان في كل مكان وزمان فيما تتطلب العلاقة بين الواقع والرموز تأملات عميقة في سياق دراسات سوسيولوجية على مستوى أي مجتمع وخصوصيته الثقافية ومخيلته الجمعية. وكما يقول الدكتور محمد السعيد إدريس فإن على كل المصريين أن يعرفوا كيف يدافعون عن مصر وعن دينهم وايمانهم من هؤلاء التكفيريين الخوارج الجدد وهذا لن يتحقق الا بوحدة الشعب وكل القوى الثورية ودعم التضامن المجتمعي وليس عبر الانشقاقات والانقسامات واصرار البعض على تجريم وتخوين ثورة 25 يناير أو الاعتماد فقط على المواجهة الأمنية فالمعركة هي معركة مصر ومعركة كل المصريين. وإذا كان الحديث عن حرب الرموز فليعلم هؤلاء الذين يشنون حربهم الجديدة / القديمة على مصر أن "المصري يشبه طائر الفينيق الذي ينبعث دوما من رماد الموت لآفاق الحياة المتجددة"..التلاعب بالاستعارات التاريخية لن ينجح في تزييف شكل الوطن وجوهره ولن يغتال الطريق..ستنتصر الحقيقة..ستنتصر مصر المؤمنة رغم شراسة حرب الرموز ومؤامرات احياء الفتنة الكبرى.