مقال قصصى أدارت صفيه زر المذياع فسمعت كلاماً عجباً أسر قلبها، عندما أطلق المذيع ذو الصوت الرنان الحماسي البيان الأول لعبور قواتنا المسلحة لقناة السويس.. المانع المائي العظيم، وتحطيم خط بارليف وأسطورة الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر، ومازالت المدافع تهدر وأزيز الطيران يدوى فى كل مكان على الجبهة، اليوم غسل الأبطال عارهم، وذهبت صفية إلى غرفة أخيها "بليغ حمدي" الذي كان نائما بعد الظهر وهى تهلل وتكبر .. الجو رمضان والكل نيام. - انهض يا بليغ ..مصر كلها فرحة، لقد عبر الجنود قناة السويس، خلاص النصر أتى، قم وشارك ..لقد جاء اليوم الذى كنا ننتظره .. أخوك الضابط حسام كان يود المشاركة فى هذه المعركة الذى كان يؤمن بيوم وقوعها. فرك بليغ عينيه كأنه في حلم، وهرع إلى المذياع، وضبط مؤشره، وسمع البيان مرة أخرى وطُُرب قلبه فرحاً، وغيّر ملابسه فى الحال، واتصل بأصدقائه عبد الرحيم منصور، ووجدي الحكيم، وأخبرهما بأنه سيلحق بهم إلى الإذاعة، وعندما وصلها فوجدها موصدة، حيث كانت مستهدفة، وعرف من وجدي الحكيم أنهم سيكتفون بالأغنيات القديمة، لأنه لا ميزانية، وحتى لا نصدم ثانية كما حدث فى سنة 1967، حيث كانت الأغنيات تسبق الجيوش وهى تزيف الوعي بالدم وابنك يقولك...ألخ. وطلب من وجدى أن يفتح له الاستوديوهات، ووقع وجدي في حيرة شديدة ماذا يفعل أمام إصرار بليغ؟ وهداه تفكيره للاتصال ب(بابا شارو) رئيس الإذاعة، وتأخر الرد مدة، كان بليغ يذرع فيها الطرقات ويجوبها والعود بيديه وبجواره عبدالرحيم منصور، وهنا صاح بليغ فى وجدي الحكيم: - اسمع يا وجدي، أمامك خمس دقائق من الآن إذا لم استطع دخول الإذاعة سأُبلَغ شرطة النجدة، وأنا أتهمك بالخيانة العظمى، أنا من حقي أن أشارك وأحمّس الناس، إن دوري لا يقل عن دور هؤلاء الجنود الذين يضحون بالغالي والنفيس ويهبون دمائهم الذكية فى سيناء، وأنا أُمنع هنا عن أداء دوري، أعمل حاجة يا وجدي .. أرجوك ... فسمع بابا شارو بما حدث فأتصل بالدكتور محمد عبدالقادر حاتم وزير الدولة للثقافة والإعلام، فسمح لهم بدخول الإذاعة، فُسر الجميع لهذا القرار الجريء من الدكتور حاتم وعبدالرحيم منصور يهتف بكلمات الأغنية التى أنشأها فور سماعه بنبأ العبور، وانتهى منها مؤخراً: بسم الله بسم الله ** أذن وكبر بسم الله نصرة لبلدنا بسم الله * * بإيدين ولادنا بسم الله وأدان ع المدنة بسم الله ** بيحيى جهادنا بسم الله الله أكبر أذن وكبر ** وقل يا رب النصرة تكبر ** بسم الله وقد أعجبت كلمات الأغنية وموسيقاها بابا شارو، وطلب أن يسمعها قبل إذاعتها وأعاد سماعها أربع مرات ثم قال: - (ما تعرفش الواد بليغ ده بيطلع الحاجات دى إزاى؟) وجاء من بعده كل رجال الفن والموسيقى والشعراء، الكل يبدع على عجل، والحماس يسربل الجميع .. قلوبهم ترقص من الفرح والأنباء تأتى من الجبهة تزيد من الفرح والسرور. ودخل بليغ الأستوديو ليسجل فإذا بالفرقة الموسيقية للإذاعة متواضعة جداً من حيث الإمكانيات، ولا يصاحبها (كورس)، فماذا يفعل وقد جعل لحن الأغنية (بسم الله) غناءً جماعياً، فظل يتجول في أرجاء الإذاعة، وهو يسرع الخطى علّه يجد ضآلته ولكن عبثاً، فوجد السعاة والعاملين بالإذاعة قلوبهم فرحة فى هذا اليوم، فجمعهم ودّربهم على الإلقاء والأداء، وهذا المجهود الخارق أعجب مصر كلها، بل أعجب العالم العربى كله بعد سماعه يغنون: طول ما أحنا يا مصر بسم الله *** جايبين النصر ** بسم الله وجنود الشعب بسم الله ** بيخطوا الصعب ...بسم الله بسم الله ...بسم الله ... أذن وكبر ***** سينا يا سينا بسم الله ....أدينا عدينا ...... بسم الله ما قدروا علينا بسم الله .... جنود أعادينا بسم الله بسم الله .. ..أذن وكبر وبعد أن تم تسجيل الأغنية، مكث بليغ بالإذاعة لا يغادرها إلا لمماً.. يستقبل الجديد من الإبداعات، وكان بجواره دائما عبدالرحيم منصور، فارس الحلبة، الذى كان صاحب الإنتاج الغزير من روائع أكتوبر الوطنية يلحن له بالطبع "ابن النيل.. بليغ حمدي"، وكانوا في استراحة من العمل الشاق عرض عبدالرحيم عليه كلمات أغنية "أنا ع الربابة بأغنى": حلوة بلادى السمرة بلد الحرة بلادى بلاد لثورة بلادى بلاد الخضرة بلادى وأنا على الربابة باغنى مملوكشى غير انى أغنى وأقول تعيشى يا مصر وتحيا يا مصر. - الله عليك يا حيمو .. منذ زمن وأنت تقرأ أفكاري من أول ما تقابلنا فى أغنية "ما على العاشق ملام" ، مرورا بأغاني: "أم الصابرين"، و"الله زمان يا مصر"، و"قومي عليك السلام"، وهذه الأغنية "بسم الله" التي نجحت باكتساح، ويرددها الجنود بحماس على الجبهة، يستأنسون بها، وبسببها نسوا النشيد القومي لمصر. - ومْن ترشحه لغنائِها؟ - وردة طبعا ذات الصوت القوى، لقد أتقنت هذا النوع من الأغاني، ونجحنا سوياً فى أنماط الغناء الأخرى. - خيراً ما صنعت يا ابن النيل ... إن موسيقاك هي ضمان لنجاح وانتشار أي أغنية.. ففي هذه الفترة يجب علينا أن نسعد الناس.. لقد عاشوا ست سنوات عجاف أثّرت فيهم وأخمدت معنوياتهم وآن للفرح أن ينتشر ويستمر. - أنا معك يا عبدالرحيم، فأنت تنهل من ثروات مصر من أدب شعبها العظيم.... "الفولكلور" الذي اختزنه في وجدانه مئات السنين.