مع انطلاق العمل فى تنفيذ المصريين بأنفسهم وتحت قيادة السيسى المشروع القومى لاستثمار عبقرية موقع مصر؛ بتوسيع وتنمية قناة السويس ومحيطها ، تذكرت ما سجله جمال حمدان فى ختام دحضه للافتراءات على مصر والمصريين فى شخصية مصر، أو دراسته لعبقرية المكان. أقصد دحضه نظرية أن الموقع قد جنى على مصر، الأشد التصاقاً بالعصر الحديث خاصة، وبعصر قناة السويس بالأخص، وهى النظرية التى صنعها وروجها منظرو الاستعمار الغربي، ومؤداها أن بلداً بموقع مصر لا يمكن أن يكون ملكاً خاصاً لنفسه!! وتحت عنوان: نظرية جناية الموقع، وبغير تعقيد للمقال بأسماء المفكرين وعناوين المؤلفات، أورد جمال حمدان- بمجلد شخصية مصر البشرية- فى معرض ايجازه مزاعم هذه النظرية فى الفكر الغربي، زعم أحدهم عن مصر: أن بلاداً لها مثل هذه الأهمية لباقى العالم لا يمكن أن تكون مستقلة تماماً من الوجهة السياسية!! وزعم آخر: أن مصر لا غنى لها عن الأجانب، وأن مركزها الجغرافى يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التى تهيمن على البحر المتوسط!! وزعم ثالث: أن قدر مصر المحتوم أن تكون أرضها على درجة قصوى من الأهمية للشعوب الأخري!! وبعد أن يورد جمال حمدان اعتراف أحدهم بأنه هذه نظرية بالية، يستدرك أنها لم تكن كذلك دائماً- حتى بيننا نحن أنفسنا؛ إذ رفض محمد على فكرة شق القناة خشية إثارة مطامع السيطرة على مصر؛ كما خشى الفرعون نخاو قبله بأكثر من 2500 سنة! ويسلم مؤلف عبقرية المكان بأن موقعنا الجغرافى وقناتنا الاستراتيجية قد اتخذت بالفعل مبرراً لتوطن الاستعمار وإزمانه، وليس من الصدفة أن تكون مصر- باستثناء عدن- أول وحدة فى المشرق العربى تخضع للاستعمار الأوروبي!! فلا شك أن شق القناة سهل على الاستعمار مهمته خارج مصر، واتخذ ذريعة لمزيد من التمسك بمصر، ولا جدال أن خطورة موقعنا وأهميته أخرتا من استقلالنا برغم عظم المقاومة الوطنية. ولا مناص من الاعتراف بحقيقة أن الموقع قد جنى علينا كأمر واقع، وأغرى بنا الاستعمار وأطماعه. لكن موقعنا إذ اقترن بطاقة كفء له لكانت النتيجة عكسية تماماً؛ وفى هذا السياق هتف المصريون أن القناة لمصر.. وأن مصر ليست للقناة. ويقول حمدان أن مصر كانت على موعد مع قدرها لتستعيد مكانها الحقيقى فى الإطار العالمى مع شق قناة السويس. وقد سبقها طريق البريد بين السويس والقاهرة والإسكندرية، جامعاً بين الطريق الصحراوى وطريق فرع النيل، ثم جاءت السكك الحديدية فكررت نفس الاستراتيجية، واستبدل الطريق الصحراوى أحياناً بترعة مائية فى شرق الدلتا تصل البحر الأحمر بالنيل. وهنا بالتحديد يظهر اختلاف قناة السويس وأصالة استراتيجيتها؛ إذ تصل البحرين الأحمر والمتوسط بطريق مائى بحرى دون حلقة برية، ولا تنتظم أى انقطاع نقلى أو تعدد فى الشحن والتفريغ، فجاءت أكبر عامل اختزال فى جغرافية النقل الكوكبية؛ اختزلت قارة برمتها هى أفريقيا، وأسرت طريق الرأس، وأعادت وضع مصر فى قلب الدنيا. وعلى جانب الاقتصاد والتجارة والنقل، وورثت واستقطبت كل خطوط النقل البرية خارجها شرقاً وغرباً، ابتداء من طرق القوافل التاريخية الطولية عبر الصحراء بين إفريقيا المدارية والبحر المتوسط، حتى الطرق البرية التاريخية الطولية والعرضية فى غرب أسيا. ومن المحتمل- كما يقول هوسكنز فى مؤلفه الشرق: الجغرافيا التاريخية لأوروبا- أن عملاً ما من أعمال الإنسان المادية لم يؤثر على علاقات الأمم بصورة أكثر عمقاً مثل قناة السويس.. وأنه من الصعب أن نتصور إنجازات أخرى فى حدود القدرة البشرية يمكن أن تغير أوضاع الطبيعة أكثر من قناة السويس. أننا لا نعرف مائة ميل لها ما للقناة من خطر ونتائج. ومنذ شقها، وبالأخص منذ حل البخار محل الشراع، الذى كانت تعاكسه رياح البحر الأحمر، أصبحت شريان المواصلات العالمية. وقد أتت القناة هدية الموقع إلى مصر، وهدية مصر إلى العالم. بالنسبة لمصر، كان أبسط معنى للقناة أنها جددت شباب موقعها الجغرافى وأعادت اليها دورة الدم والحياة، وأعطتها نافذة أو طاقة على الدنيا، وربما كان لهذا نصيب فى سبق مصر النسبى إلى الحضارة الحديثة إذا قيست ببلاد مماثلة. ومع ذلك، فإن علاقة الرخاء المتبادلة بين وادى النيل وطريق السويس التى كان يفترض استعادتها لم تتحقق فى الواقع قط، فضلاً عن أنها تعرضت هى نفسها وجوداً وموقعاً لأخطار خارجية جسيمة سياسية- استراتيجية، واقتصادية- تكنولوجية. وتتمثل الأولى فى الاستعمار، فى الأطماع والصراع ثم الوجود الاستعمارى القديم والجديد، والثانية فنقصد بها صراع النقل البحرى عموماً كما يتمثل فى منافسة الطرق البديلة، برية كانت أو بحرية، أنابيب أو ناقلات، ولكن بالأخص والتحديد الناقلات العملاقة وطريق الرأس. وتحت عنوان: مصرية سيناء، يسجل جمال حمدان حقيقة أن سيناء قد تكون غالباً، أو دائماً، أرض رعاة؛ لكنها قط لم تكن أرضاً بلا صاحب منذ فجر التاريخ. فعلى مدى تاريخ ألفي، هو تاريخ مصر الفرعونية بل مصر العصور الحجرية، كانت سيناء مصرية، تحمل بصمات مصر حضارة وثقافة وطابعاً وسكاناً بالقوة نفسها التى يحملها بها أى إقليم مصرى آخر، ومنذ بدأ تاريخ مصر المكتوب، والنقوش الهيروغليفية تثبت الوجود المصرى على كل حجر. ثم يتوقف مؤلف عبقرية المكان ويعترف بأن الفراغ العمرانى هو وحده الذى يشجع الجشع ويدعو الأطماع الحاقدة إلى ملء الفراغ. وببصيرة نافذة يعلن أن التعمير هو التمصير، وأنه لم يعد هناك معنى ولا مبرر لأن تظل قناة السويس أحادية الضفة، بل ينبغى أن تزدوج تماماً بالعمران الكثيف على كلتا الضفتين. لتكن إعادة تعمير سيناء قطعة رائدة من التخطيط القومى والإقليمي، العمرانى والاستراتيجي، تضع التحدى الحضارى على مستوى التحدى العسكري، وتمزج مشاريع التعمير بمشاريع الدفاع. نقلا عن "الاهرام" المصرية