لا تزال المدينة العتيقة في تونس محافظة على جمالها وسحرها وخصوصية هندستها المعمارية، فلا يمكن للمار بجانب أسوارها الصامدة رغم قساوة السنين وبين أقواسها الفاتحة ذراعيها مرحبة بزوارها، إلا أن يستحضر ذاكرة تاريخ يعود إلى قرابة ال 13 قرنًا. ول"المدينة العربي" كما يسميها التونسيون جاذبية خاصة تأسر زوارها وتزيد من رغبتهم إلى زيارتها واستكشافها يوما بعد يوم، لكن خصوصية المدينة تبرز أكثر في المناسبات والمواسم الدينية المقترنة بها. فليالي شهر رمضان المعظم لا تحلو للتونسي دون أن يرتشف قهوة بين أزقة الشواشين (تباع فيها الشاشية وهي قبعة توضع على الرأس) وساحة رمضان باي ونهج جامع الزيتونة وغيرها ولا أن يقتني باقة فل وياسمين ليصبح لسهرة رمضان عبق ورائحة خاصّة. وتعيش المدينة العتيقة في هذا الشهر المقدس لدى التونسيين على أنغام الموسيقى التراثية والفنون المتنوعة، إذ تكثر في فضاءاتها العروض الثقافية والمهرجانات الرمضانية. ومن بين هذه الفضاءات التي تعكس روح "المدينة العربي" بمحافظتها على زخرفها ولمساتها وأصالتها تجد المركز الثقافي ببئر الأحجار (حكومي) الذي يحتضن ليالي مهرجان المدينة (ينظم سنويا برمضان)، والمركز الثقافي الطاهر الحداد (حكومي) الذي ينظم أنشطة وأمسيات ثقافية وغيرها من النوادي والفضاءات. وبالإضافة إلى تلك الفضاءات تحلو سهرات رمضان على وقع العود التونسي والقانون والآلات الإيقاعية التي تنظمها المقاهي الخاصة على مقربة من قصر الحكومة الموجود بساحة القصبة، وترتادها العائلات التونسية لتستمتع بالألحان والمعزوفات التونسية التي تأخذها إلى الزمن الذهبي للفن التونسي. وفيها يلتقي الأصحاب والأقارب لكسر روتين يومهم والخروج من رتابة العمل وملله في مسامرة رمضانية على أضواء فوانيس المدينة العتيقة لسماع عذب الألحان. ولا يمكن أن تعبر المدينة العتيقة دون أن تلقي نظرة على جامع الزيتونة المعمور الذي يكتظ يوميًا بالمصلين وقت التراويح، لتعلو من مئذنته آيات القرآن الكريم وأصوات الأدعية والابتهال لله في ليالي الشهر الفضيل. فهذا المعلم الديني الذي يعود تأسيسه إلى السنة 79 للهجرة وتتلمذ فيه العلامة عبد الرحمن بن خلدون (1332 - 1406م) وغيره من العلماء والفقهاء والمفكرين الذين أشعّوا بنور علمهم وأثروا في الحضارة العربية الإسلامية. وليس ببعيد عن جامع الزيتونة تأخذك قدماك حيث المحلات التجارية التّي بدأت الحركية فيها تتزايد خاصة في النصف الثاني من شهر رمضان وقبيل أيام على عيد الفطر إذ تقبل العائلات على اقتناء ملابس العيد لأطفالها. في حين يقبل آخرون على الإعداد لحفلات الزواج والخطوبة التي تلي شهر رمضان، فالمدينة العتيقة ومثلما هي مركز ثقافي وحضاري فهي أصبحت بمرور الوقت نقطة تجارية ديناميكية في قلب العاصمة تونس. ولا يمكن أن تمر بين هذه الأزقة والأروقة دون أن تجذبك رائحة الحلويات التونسية التقليدية المنبعثة من قلب المدينة العربي، فتجبرك أن تتذوق طعمها الطيب. هناك حيث تجمعت حشود من الحرفاء لاقتناء البعض من "المقروض التونسي" أو "الزلابية والمخارق" أو "الدبلة" وغيرها من المرطبات (الحلويات) التي رصفت في تنسيق وانتظام واتخذت من الذهب لونا ما زاد في جمالها وطيب مذاقها. وتعود الذاكرة ب"أمين التواتي" الذي التقته الأناضول في ربوع المدينة إلى أيام الصبا وهو شاب من ساكني "المدينة العربي" وشهد فترات جميلة فيها. ويقول أمين إن "للمدينة العتيقة طابعا خاصا يميزها عن غيرها من باقي الأماكن إذ لا تزال محافظة على الُلحمة نفسها وصلة الرحم بين ساكنيها". ويضيف أمين أن "رمضان ليس له طعم بعيدا عن أسوار المدينة العتيقة، ومقاهيها وفضاءاتها التي تزيد أجواءه جمالا أكثر". سيف الدين قاسم وهو شاب من ساكني المدينة أيضا تحدث للأناضول قائلا إن "ما يميّز المدينة العتيقة في شهر رمضان عودة الطابع الإسلامي لها أكثر من السابق كما أنها تعيدنا إلى الفترات الزمنية المشرقة زمن كان الأجداد والآباء متشبثين بجذورهم وتقاليدهم ولباسهم التقليدي الأصيل". ويشير قاسم إلى أن "الجميل في مساجد المدينة العتيقة هو التكثيف من الدروس الدينية ومن حلقات الذكر والأدعية وتعليم القران وتحفيظه". وتبقى أجواء المدينة العتيقة ذات خصوصية بدأ التونسي بفقدانها مع تطور المعيشة والعصر وسرعة نسق الحياة لذلك يسعى سكانها إلى المحافظة عليها والتشبث بها أكثر فأكثر. والمدينة العتيقة هي الجزء العتيق والقديم من مدينة تونس، ويضم أعرق قصور مماليك تونس القدامى وعاش فيه أول السكان الذين حطوا رحالهم في تونس، وتحيط بها أسوار كبيرة وأبواب عديدة منها "باب الفلة"، و"باب بنات"، و"باب سويقة"، وباب جديد" وغيرها. وفيهات كذلك أسواق مثل سوق البِركة وهو سوق خاص ببيع الذهب والمصوغ، وسوق الشواشين، وسوق الجلد، والنحاسين الذين يبيعون النحاس وغيرها من الأسواق الأخرى.