مع احتدام المعارك التي رسمت خطوط ثلاثة كانتونات لتقسيم العراق بطريقة جغرافية ومذهبية، وحتى نفطية، يتداول المشهد السياسي سلسلة سيناريوهات لتقسيم المنطقة كمشروع اميركي جديد يقضي بتصحيح خطوط اتفاقية "سايكس بيكو" التي رسمها الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني مارك سايكس، وقد تمت في عام 1916، على اساس رغبة المنتصر في الحرب العالمية الأولى، ودون رغبة البلدان التي رسمت حدودها المقطعه من الامبراطورية العثمانية المهزومة. ومن بين الوثائق المتداولة، وثيقة سبق أن وضعها الباحث الأمريكي البريطاني برنارد لويس، بتكليف من وزارة الدفاع الاميركيه ومستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر زبغنيو برجينكسي الذي نقل عنه، أن المطلوب اشعال حرب خليجية ثانية تقوم على هامش حرب العراق – ايران، تستطيع الولاياتالمتحدة توظيفها لتصحيح حدود اتفاقية"سايكس بيكو"، وتنفيذ خطة برنارد لويس القاضية بتقسيم 18 دولة عربية إلى مجموعة دويلات صغيرة، وقد تكرر الحديث عن اعادة تقسيم منطقة الشرق الاوسط عقب الغزو الاميركي للعراق سنة 2003، وذكر ريتشار هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الاميركي في كتابه تحت عنوان "حرب الضرورة ام حرب الاختيار" ان قرار الرئيس جورج بوش الابن احتلال العراق سنة 2003 ، كان بمثابة الشرارة التي اشعلت حرب المقاومة الاسلامية، وما رافقها من تأثيرات عميقة في سوريا ولبنان وايران ومختلف دول الجوار، وتوقع هاس تفكك العراق إلى ثلاث دويلات مع هيمنة ايرانية مباشرة على محافظاتالجنوب، وانفصال منطقة كوردستان (شمال العراق) بعد اعلان استقلالها، أما الشمال الغربي، فيبقى من حصة المتشددين السنة الطامحين الى انشاء دولة سنية في محافظات غربي العراق، بما فيها الموصل الممتدة إلى مدن شرق سوريا، وفي سنة 2006 تحدثت وثيقة نشرتها مجلة "القوات المسلحة" تحت عنوان "حدود الدم" وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز، عن المشروع الأميركي لتقسيم الشرق الاوسط، وفي نهاية العام 2013، وبالتحديد في منتصف ديسمبر/ كانون الأول، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" وثيقة سياسية ادعت أنها جمعت معلوماتها من خبراء ومؤرخين ومختصين، وتحدثت عن "الربيع العربي" كمدخل لتفكيك الشرق الأوسط إلى دويلات اثنيه وطائفية وعشائريه، وقد اثبتت الوقائع على الأرض طيلة السنوات الماضيه، وما تزال، أن حدود الدول العربية ترسم بدماء آلاف الضحايا والأبرياء، من أجل تمرير مشاريع استعمارية مريبة تسمح لإسرائيل بأن تعيش وسط 40 دولة معادية من دون أن توقع اتفاقية سلام. تقسيم العراق في محاولة لإبعاد شبهة التدخل عن واشنطن، أعلن وزير الخارجية الاميركي جون كيري ان بلاده ملتزمة وحدة العراق، ولكن على الرغم من ان ادارة اوباما تدرك تماماً ان استمرار رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي في الحكم، هو عامل تقسيم، فقد راهنت عليه وعلى الدعم الذي تقدمه له ايران وروسيا، وتوقعت أن يبطئ هذا الدعم زحف "داعش" باتجاه بغداد والمراقد الشيعية المقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية. اما المراقبون في الاتحاد الاوروبي، فهم يرون أن وحدة العراق قد تعرضت للاهتزاز والتمزق، فالشمال الكردي قطع ارتباطه بمركزية بغداد واتجه إلى تركيا لبناء علاقات اقتصادية بديلة بعد ان ضم منطقة كركوك الغنية بالنفط الى دولة كوردستان، وفي وسط العراقوجنوبه استمرت حكومة الامر الواقع التي تسيطر عليها قرارات شيعه موالين لايران، في حين "داعش" اعلنت "الدولة الاسلامية" التي انطلقت من مساحة جغرافية معينة محصورة بالعراق وبلاد االشام، وهي تطمح إلى ضم الكويت و سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. واذا كانت كل السيناريوهات تتحدث عن تقسيم العراق، حتى إن بعض المراقبين يؤكدون بأنه أصبح واقعاً على الأرض من خلال تطور المعارك التي تشير إلى رسم حدود هذا التقسيم بالدم، ولكن يبقى السؤال ما هي مقومات الكيانات الجديدة وهل تستطيع الحياة مع التطورات المرتقبة اقليمياً ودولياً؟.. لا شك في أن أي عملية تقسيم للعراق في ضوء السيناريوهات المتداولة، لا بد من ان يؤخذ بالاعتبار ثلاثة عوامل رئيسية: التوزيع الجغرافي والديموغرافي والطائفي للسكان، مقومات الاقتصاد وخصوصاً انتاج النفط وامكانات تصديره، واخيراً الدعم الخارجي الذي يمكن أن تتلقاه كل مجموعة سكانية اقليمياً من الدول المجاورة، ودولياً من الدول الكبرى والمنظمات الدولية. التوزيع الطائفي منذ عام 1997، لم يجر أي تعداد سكاني شامل في العراق، وبصورة اخص لا توجد أي احصائية رسمية تبين حجم الطوائف الدينية والقوميات العرقية، وكل ما يصدر عن المؤسسات ومراكز الابحاث في هذا الشأن هو تكهنات تعتمد على احصاءات قديمة جداً أو على مرجعيات احصائية مثل بطاقة التموين الصادرة عن النظام السابق أو سوى ذلك من وسائل يشوبها هامش كبير من الخطأ يخل بحقيقة الواقع السكاني، خاصة اذا كانت تترتب على التعداد السكاني نتائج سياسية تطال مستقبل العراق السياسي ومستقبل طوائفه واعراقه. وحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية يبلغ عدد السكان نحو 28 مليون نسمة (وقد يكون الآن تجاوز ال 29 مليون نسمة)، ويتألف العراق من قوميتين رئيسيتين: العربية وتشكل 80%، والكردية 20%، ومع وجود أقليات مثل التركمان والسريان وغيرهم، وبما انه لا تتوافر اي احصاءات رسمية عن التقسيم الطائفي للسكان، فان هناك تفاوتاً بتقدير الارقام وتختلف وفق مصادرها، وتشير تقديرات موقع الاستخبارات الاميركية (FACTBOOK) الى ان العرب الشيعة يمثلون 60 في المئة من السكان، مقابل 37 في المئة من العرب السنه، ولكن احصاءات غير رسمية للمنظمة الانسانية الدولية "هيومانيتارين كوردينيو ترفور ايراك" لعام 1997، اشارت إلى أن تعداد السنه يزيد نحو 920 ألف نسمة على تعداد الشيعة، في حين تبين من دراسة اعدها الاكاديمي العراقي الدكتور سليمان الظفري بالاستناد إلى معطيات التقرير السنوي للجهاز المركزي للاحصاء (نسخة دائرة الرقابة الصحية التابعة لوزارة الصحة) ان نسبة السنه من ابناء العراق المسلمين 53 في المئة، مقابل 47 في المئة للشيعة. ومن خلال احصاء يقوم على قاعدة اعتبار سكان المحافظات الواقعة شمال وغرب العاصمة بغداد من اهل السنه، والمحافظات الواقعة جنوببغداد من ابناء الطائفة الشيعية، مع اعتبار بغداد مناصفة بين الطائفتين، يمكن التوصل الى النتيجة التالية: اولاً: ابناء السنة ينتشرون في ثماني محافظات هي: دهوك، نينوى، اربيل، التأميم، السليمانية، صلاح الدين، ديالي، والانبار (مع وجود شيعي قليل) ويبلغ عدد سكان هذه المحافظات نحو 8.72 مليون نسمة، ومع إضافة نصف سكان بغداد البالغ 2.72 مليون نسمة، يصبح العدد التقريبي 11.44 مليون نسمة. ثانياً: ابناء الشيعة ينتشرون في تسع محافظات هي: كربلاء، بابل، واسط، القادسية، النجف، المثنى، ذي قار، ميسان، والبصرة (مع وجود سني قليل) ويبلغ عدد سكان هذه المحافظات 7.9 مليون نسمة، ومع اضافة نصف سكان بغداد يصبح العدد 10.62 مليون نسمة. ويلاحظ أن عدد محافظات السنه أقل بمحافظة واحدة عن عدد محافظات الشيعة، لكن يظهر الفرق من مجموع سكان المحافظات السنيه الذي يزيد على مجموعة المحافظات الشيعية بسبب الكثافة السكانية، مثال على ذلك أن محافظة نينوى السنيه يساوي عدد سكانها ما يبلغه عدد ثلاث محافظات شيعية (كربلاء، ميسان، والمثنى). اما الاكراد فان نسبتهم تصل الى 17 في المئة من عدد السكان أي اكثر من خمسة ملايين نسمة، وينتشرون في شمال وشمال شرق العراق، مع وجود بصورة اقل في محافظاتبغداد وواسط وصلاح الدين. انتاج النفط لقد نجح العراق في رفع احتياطياته النفطية من 115 مليار برميل الى 141 ملياراً، ليصبح بذلك خامس اكبر دولة في العالم لجهة الاحتياطي النفطي بعد السعودية وفنزويلا وكندا وايران، وقد تجاوز انتاجه الثلاثة ملايين برميل قبل الاحداث الاخيرة، ليحتل المرتبة الثانية داخل اوبك بعد المملكة العربية السعودية. اما موازنة العراق لعام 2014 والمجمدة حالياً في ادراج مجلس النواب بسبب خلاف حكومة بغداد مع حكومة اربيل حول صادرات اقليم كوردستان من النفط، فقد بلغت نحو 150 مليار دولار بزيادة 30 مليار دولار وبنسبة 20 في المئة عن ارقام موازنة العام 2013، وهي اعلى موازنة في تاريخ العراق، وتستند بنسبة 93 في المئة على ايرادات النفط، وعلى اساس احتساب 90 دولاراً لسعر البرميل، وانتاج 3.4 مليون برميل يومياً، وعلى الرغم من ذلك، حمل مشروع الموازنة عجزاً بلغ 35 تريليون دينار، او ما يعادل نحو 29 مليار دولار، ولكن وزير المال صفاء الدين الصافي اعد مسودة مشروع مرفق للموازنة، يتضمن خفضاً لهذا العجز بمقدار 5.3 مليار دولار الى 23.7 مليار دولار. ومن اجل تمويل الخطة الوطنية للتنمية، يخطط العراق لزيادة انتاجه من النفط بشكل تدريجي الى تسعة ملايين برميل في العام 2020. وتعمل في العراق حالياً شركات نفط عملاقة مثل: بي. بي، اكسون موبيل، رويال داتش، وشركة ايني الايطالية في الجنوب في حقول الرميلة، وفي غرب القرنة رقم واحد، ومنطقة الزبير، وذلك منذ عام 2010، وتنتج تلك الحقول 600 الف برميل يومياً، ويبلغ حجم الاستثمارات الاجمالية لهذه الشركات من 2010 حتى 2013 نحو 30 مليار دولار. ولكن مع احتدام المعارك واتساع اعمال الارهاب وزيادة عمليات التفجير التي اصبحت تشمل معظم مناطق العراق، وتعرض بعض الشركات العاملة هناك، ولا سيما شركات النفط لسلسة اعتداءات متكررة، فقد حذرت الوكالة الدولية للطاقة من المخاطر المتزايدة في انتاج النفط العراقي، خصوصاً لجهة المخاوف من عدم الاستقرار الامني والسياسي، فضلاً عن استمرار البيروقراطية والقيود اللوجستية والتشغيلية والتي تشكل تحديات كبيرة وتؤدي الى تأخير العمل في المشاريع الاستثمارية. تقسيم الانتاج تبلغ الحقول العراقية المكتشفة 76 حقلا، لم يستغل منها سوى 27 حقلا من بينها عشرة عملاقة، ويتركز الجزء الاعظم من الاحتياطي في الجنوب حيث توجد الكثافة السكانية من الطائفية الشيعية، ويشكل الاحتياطي النفطي لثلاث محافظات (البصرة، ميسان، وذي قار) مجتمعة نحو 80 مليار برميل اي نسبة 71 في المئة من مجموع الاحتياطي العراقي، وقد سجلت صادرات النفط من مرافئ الجنوب على الخليج نحو 2.5 مليون برميل يومياً في أبريل/ نيسان 2014، وهو الأعلى منذ عام 1979، أي منذ 35 سنة. أما بالنسبة للوضع في اقليم كوردستان، فقد بات أقرب للحسم بالانفصال عن العراق وتأسيس دولة مستقلة، بعد حديث رئيس الاقليم مسعود برزاني عن استفتاء قريب للانفصال لم يتحدد موعده. ويسيطر الأكراد على محافظات الشمال وهي: السليمانية واربيل ودهوك، الى جانب محافظة كركوك التي يطالبون بضمها إلى الاقليم، ويقدر احتياطها النفطي بنحو 13 مليار برميل، ويشكل 12 في المئة من اجمالي احتياطي العراق، ويحتوي حالياً على 330 بئراً منتجة، ويبلغ انتاج البئر الواحدة نحو 35 الف برميل يومياً، ويعتبر حقل كركوك خامس اكبر حقل في العالم، ويعود تاريخ بدء استغلاله إلى العهد الملكي. وهناك حقول أخرى تحت السيطرة الكردية، منها حقل باي حسن، يقع غرب حقل كركوك، وقد بدأ الانتاج فيه منذ حزيران (يونيو) 1959 وكذلك حقل جمبور شمال شرق مدينة كركوك. وتبقى المناطق الواقعة في المحافظات ذات الكثافة السنيه الأقل استفادة من انتاج النفط، حيث توجد محافظة نينوى وهي المحافظة الكبرى وفيها اربعة حقول نفطية هي: عين زاله، القيارة، صفية، وبطمة، وتصل الى الحدود السورية، اضافة إلى حقول اخرى في محافظات التأميم وصلاح الدين وتكريت في الشمال، ومحافظة ديالي في وسط البلاد. ولكن "داعش" التي تلعب دورا متقدما في القتال في المناطق السنيه، كانت قد بدأت بيع النفط السوري الواقع تحت سيطرتها ب 12 دولاراً للبرميل، ويبدو أن طموحها حسب الخارطة النفطية التي اعلنتها، لا يقتصر على سورياوالعراق، بل يشمل ايضاً ايضاً الكويت والاردن وفلسطين ولبنان، لذلك حذر وكيل وزارة الخارجية الكويتية خالد الجار الله من خطرها ليس على الكويت فقط بل على المنطقة ككل، وخصوصاً دول مجلس التعاون، داعياً الى ضرورة "تحصين جبهاتنا الداخلية بما يحقق لنا القدرة على مواجهة مثل هذه التحديات الخطرة والمتزايدة". وهكذا يتوقع المراقبون أن يمهد أي سيناريو لتقسيم العراق لصراع نفطي كبير قد يشمل المنطقة بكاملها. المصافي والتصدير توجد في العراق عدة مصافي للتكرير، واهمها اربع مصافي عملاقة من اكبر مصافي الشرق الاوسط، وقد اسستها شركة مصافي "بيجي" سنة 1980، ومعظمها يقع في مناطق الكثافة السكانية السنيه، ومنها مصفاة صلاح الدين الاولى وطاقتها 70 الف برميل يومياً، ومصفاة صلاح الدين الثانية وهي تنتج الطاقة ذاتها، ومصفاة الشمال وطاقتها 150 الف برميل يومياً، ومصفاة الدهون وطاقتها 250 الف برميل يومياً. وتشرف شركة مصافي الشمال المؤسسة سنة 1977 على العديد من المصافي الأخرى مثل: مصفاة الصينية ومصفاة حديثة ومصفاة كركوك ومصفاة القيارة بمحافظة نينوى وقد أنشئت سنة 1955، ومصفاة الكسك ومصفاة الجزيرة. كما تشرف شركة مصافي الوسط على عدة مصاف من بينها: مصفاة الدورة وهي من أكبر المصافي العراقية ومحور لنشاط شركة مصافي الوسط. وتبلغ طاقتها الإنتاجية 110 آلاف برميل يوميا. وكذلك تشرف شركة مصافي الجنوب على العديد من المصافي، ومن أبرزها مصفاة المفتية وتقع بالبصرة وقد أنشئت سنة 1953. ومصفاة الشعيبة: وتقع بالبصرة أيضا وقد أنشئت سنة 1974. وهكذا تتداخل المصافي بين المناطق، بحيث تتطلب التعاون في وقت قد يصعب فيه الانفصال او التقسيم. واذا كانت مناطق الجنوب تعتمد على تصدير النفط من موانئ الخليج، فان اقليم كردستان يعتمد على خط الانابيب الممتد الى الشاطئ التركي، وتبلغ طاقته، نحو 1.5 مليون برميل يومياً، اما بالنسبة الى النفط المنتج في المحافظات السنيه فهو سيكون بحاجة الى استخدام شبكة انابيب داخلية تمكنه من التصدير عبر الخط التركي او موانئ الخليج ، بانتظار انشاء خط الانابيب المرتقب بين العراق والاردن، او الخط السعودي الممتد الى البحر الاحمر. ويبقى كل ذلك مرهون بالتطورات الاقليمية، والتي تحدد علاقات العراق وتعامله مع دول الجوار، وفي اطار العلاقات الدولية والتحالفات التي تنتجها، سواء استمر العراق موحداً، او تم تقسيمه كدول مستقلة، او كيانات فيدرالية.