كان من عادة العرب قديماً أن يرسلوا أولادهم إلى البادية في الصحراء، فيكبر الصغير وقد تعلl النطق الصحيح للغة، كما يتعلم القوة والشدة والرمي بالرمح والنبل، فإذا عاد إلى والديه كان قوياً شديداً فصيحاً، ولم تكن الأم ترضع وليدها بل كانت تعطيه لإحدى مرضعات البوادي الأمينات ترضعه وتربيه ثم تعيده إليها مرة أخرى. وإلى مكة جاءت حليمة السعدية إحدى مرضعات بادية بني سعد وقد تركت ديارها من أجل الحصول على طفل من بيت غني حتى ترضعه فتستطيع بذلك الحصول على أكبر قدر ممكن من المال. إن حليمة لتفكر الآن في ديار بني سعد التي انقطع المطر عنها منذ شهور؛ فأصابهم الجفاف، ولا زال مشهد أغنامها الهزيلة يداعبها بحزن، وحتى ثدييها قد صار اللبن فيهما قليلا، وإنها لتنظر أمامها فتجد المرضعات قد سبقنها، ولكن ما زادها صبراً أنها طمعت في العودة بمولود غني يعوضها كل هذه الخسائر. بسمات الصغير وفي بيت عبد المطلب كانت بسمات الصغير محمد (صلى الله عليه وسلم) تملأ أركان البيت وجنباته، ولازال النور يتلألأ في وجهه، وإنه الآن قد رضع للمرة الأولى من صدر "ثويبة" خادمة عمه أبي لهب. عاد فم الصغير يطلب اللبن والرضاعة، فلابد من مرضعة لحفيد سيد قريش، وما من مرضعة تنظر إلى هذا اليتيم فلا أب له يعطي المال والهدايا، وإن جده عبد المطلب رجل ذو صيت وشهرة، ولكنه ليس صاحب مال وغنى. ومن هنا ترددت المرضعات – ومنهن حليمة – في قبول إرضاع هذا الصغير، ويئس الجميع في بيت عبد المطلب، وحاولت آمنة أن ترضع ولدها، ولكن لا شيء ينزل من صدرها. حليمة السعدية وفجأة سمع الجميع طرقاً على الباب، إنها حليمة السعدية عادت لتأخذ هذا الغلام اليتيم لترضعه، فقد ظلت طيلة يومها تبحث عن رضيع غني لكنها لم تجد، فلم يكن أمامها إلا قبول أعظم مولود في التاريخ، وهي لا تعرفه. ومضت حليمة إلى زوجها تحمل رضيعها الجديد، وكان زوجها قد حضر إلى مكة معها، وإنه لحزين هو الآخر لأنه لم يعثر على ما أراد من المال. وأخرجت حليمة ثديها لترضع الصغير محمداً (صلى الله عليه وسلم)، فإذا باللبن ينزل كثيراً وفيراً وكأنه المطر الغزير، وإن حليمة لتنظر فتتعجب، إنها حاولت إرضاع ابنها الصغير منذ ساعات قليلة فلم يكن إلا لبن قليل، أما الآن فإن اللبن ينزل غزيراً كأنه شلال ماء جارف حتى شرب محمد (صلى الله عليه وسلم) وابنها، وكانت هذه بداية الأقدار السعيدة. لحظات العودة وحانت لحظة العودة إلى بادية بني سعد فجهز الجميع العدة للسفر، وذهبت حليمة إلى أبالها الضعيفة الهزيلة، فركبتها وهي مشفقة عليها، فلقد زاد حملها طفلاً رضيعاً آخر، هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولكن يا للمفاجأة! إن الأتان بدلاً من أن تتعب وتهزل إذا بها تصير أسرع دابة في الوجود، لا في مكة وحدها، إنها تجري سعيدة مسرورة كأنها فرحة بالصغير الذي ركبها. وهنا تبدل الحال، لقد صارت مرضعات بني سعد خلف حليمة لا أمامها، وإنها لتتعجب من أمر هذا الصغير الذي عمت بركته المكان حتى إن صاحباتها يقلن لها: يا حليمة أهذه هي أتانك؟! قالت: نعم، والله هي. بركات النبي ووصل الركب المبارك إلى ديار بني سعد التي سادها الجفاف، وانقطع المطر عنها وضعفت الغنم والماشية فيها. ولكن قدر لبادية بني سعد أن تستقبل أعظم الناس بركة، وأن تكون هي مهد النبوة، فما هي إلا لحظات حتى نزل المطر من السماء التي كانت كالأم تنتظر وليدها، فلما رأته فرحت؛ فنزلت دموعها سريعة وغزيرة، لقد أيقن الجميع أن الصغير محمداً (صلى الله عليه وسلم) له أمر آخر غير الناس جميعاً. لقد قويت الأتان بعد ضعف، ونزل المطر بعد جفاف، وعمت البركة كل مكان، حتى الغنم صارت قوية شديدة، فأدركت حليمة أن صاحباتها إن كن فزن بأطفال أغنياء، فإنها فازت بأفضل وأعظم وأغلى مولود في الوجود. مازالت البركة تنزل في كل مكان، ولازال الخير يعم ديار بني سعد التي ملأها السرور بعد أن قدم إليها محمد (صلى الله عليه وسلم). وما هي إلا سنتان حتى صار الوليد كأنه صبي قد جاوز الخامسة من عمره، كل هذا وحليمة لا تتحمل فراقه والابتعاد عنه. لقد كانت تحمله معها إلى المراعي الذي ترعى فيه الأغنام، فإذا بالغنم تعود قد امتلأ ضرعها باللبن، بينما أغنام الآخرين هزيلة نحيفة ضعيفة، حتى كانوا يقولون: اجعلوا أغنامكم تسرح مع أغنام حليمة بنت أبي ذؤيب، ولكن تعود أغنام حليمة شباعاً، والأخرى جياعاً، وأرادت حليمة أن تعيد محمداً (صلى الله عيله وسلم) إلى أمه، لما بلغ عمره سنتين، ولكنها لم تستطع فراقاً للصغير. فلما وصلت إلى أمه وناولتها محمداً (صلى الله عيله وسلم) أحست كأنها تفقد قلبها وعينها، فأسرعت قائلة لآمنة: ألا تتركيه لنا عاماً آخر، فإني أخشى عليه أن يمرض في مكة. حادثة شق الصدر وترددت آمنة في القبول، ولكنها رأت دموع حليمة تسبقها، فقبلت أن تعيده إليها مرة أخرى، ويا للسعادة التي امتلأت بها حليمة حينما عادت به مرة أخرى! . وخرج محمد (صلى الله عليه وسلم) ليلعب مع أخيه من الرضاعة وهو ابن حليمة، وعاد ابن حليمة مسرعاً إلى أمه وقد تغير لون وجهه، وإنها لتسمع صوت أنفاسه، ودقات قلبه. فقالت: ما بك؟ قال: محمد يا أماه، جاء رجلان عليهما ثبات بيضاء فأضجعاه ثم فتحا صدره، فتركته لما خفت منهما، فأسرع زوج حليمة، فوجد محمداً (صلى الله عليه وسلم) قد تغير لون وجهه هو الآخر، فسأله، فحكى له ما حكاه ولده له، ثم قال: إن الرجلين أخذا شيئاً من قلبي ثم أعاداه مرة أخرى إلى صدري. ولم يكن الجميع يعرف أن هذه الحادثة سيسطرها التاريخ، وتعرف باسم "حادثة شق الصدر"؛ لأن الملائكة أخرجت من قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) حظ الشيطان؛ وخشيت حليمة على محمد (صلى الله عيله وسلم)، فأعادته إلى أمه في مكة بعد أن أحبته وكان يوماً حزيناً بكت فيه ديار بني سعد جميعاً حتى كأنك تسمع الرمال تبكي لأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لن يمشي عليها بعد اليوم أو يدوسها بقدمه، ولكن لكل أول آخر، ولكل بداية نهاية. نظرت آمنة بنت وهب إلى صغيرها محمد (صلى الله عليه وسلم) فوجدته خير غلام أنجبته أرض العرب؛ فكانت تجعله أمام عينيها دائماً، وتحنو عليه، كما كان جده عبد المطلب يرى فيه عوضاً عن فقيدة عبد الله، وكان هو الآخر لا يطيق فراقه كما كانت أمه. وأرادت آمنة يوماً أن تزور أهلها، وتعرف محمداً (صلى الله عليه وسلم) بأخواله، فاستأذنت عبد المطلب، فرضي ووافق، وأرسل معها جاريته "أم أيمن" وكان الصغير قد بلغ السادسة من عمره. وفي "يثرب" فرح به أخواله وسعدوا به؛ ولم يأذنوا لآمنة بالعودة به إلا بعد عناء طويل. لحظات الوداع وبينما آمنة وولدها وأم أيمن في طريق العودة، وقريباً من قبر عبد الله أحست آمنة بألم شديد، ووجع أليم، فإذا بها تتوقف عن المسير، بعد أن أوقفتها الآلام وأثقلتها، ونظر محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى أمه فرآها في لحظاتها الأخيرة، وهي تسلم الروح لله تعالى، فماتت آمنة لتلحق بعبد الله. وها هو محمد (صلى الله عليه وسلم) يفقد أمه صغيراً، كما فقد أباه وليداً، ولم يتمالك نفسه حتى فاضت عيناه بالدموع؛ حزناً على أمه الحنونة، ولقد صار الآن بلا أب أو أم فاحتضنته أم أيمن وهي تغالب دمع عينيها، فلما عادت به إلى مكة أسرع إليه جده عبد المطلب ليضمه إليه، واحتضنه، وكأن لسان حاله يقول: ما أصغرك وأضعفك عن تحمل مثل هذه الآلام! لكن لابد من سر في هذا الأمر. وصار عبد المطلب هو الأب، والأم، والأخ لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، فكان يقربه منه ولا يأذن لأحد بالدخول عليه إلا هو، حتى أنه كان – أي عبد المطلب – يجلس في الكعبة وأولاده حوله لا يجرؤ أحد أن يقترب منه إلا بإذن، إلا محمد (صلى الله عليه وسلم) فإنه كان يجلس بجواره كما يريد ويحب، بل لا يأكل إلا ومحمد معه، وكان يوصي "أم أيمن" (وهي حاضنته ومربيته) أن تهتم به ولا تغفل عنه، وأن تطعمه وتسقيه. ولكن القدر لم يمهل عبد المطلب ليرى عظمة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد اختطفه الموت بعد أن بلغ محمد (صلى الله عليه وسلم) الثامنة من عمره، ليتركه (صلى الله عليه وسلم) وحيداً في هذا الكون الواسع. وقبل وفاة عبد المطلب، وفي لحظاته الأخيرة أوصى ولده أبا طالب أن يحفظ محمداً (صلى الله عليه وسلم) ويرعاه، فكان أبو طالب نعم الراعي والكفيل لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، وكان أبو طالب رجلاً فقيراً لا مال له. ولكن ما إن دخل عليه محمد (صلى الله عليه وسلم) حتى بارك الله له في رزقه، ورغم أن أولاد أبي طالب كانوا كثيراً إلا أن أبا طالب كان يرى في محمد (صلى الله عليه وسلم) ولداً رائعاً مؤدباً؛ فكان لا يطيق فراقه، ولا يأكل إلا معه، بل إنه ليخصه ببعض الطعام أكثر من أولاده.