إدارة مصر للعولمة في عهد مبارك د. طه عبد العليم بين ما طرحه الرئيس مبارك في خطابه بمناسبة الاحتفال بعيد العمال, وفي سياق التفكير في مستقبل الاقتصاد المصري وتعزيز الأمن الغذائي, نتناول في هذه الإطلالة ثلاث نقاط أساسية: أولاها, الحصاد السلبي للعولمة كما تجلي في أزمة ارتفاع الأسعار العالمية للغذاء وانعكاسها علي مصر, وثانيتها, استجابة مصر لتحدي العولمة في مجال تحقيق الأمن الغذائي, القومي والإنساني, في عهد مبارك, وثالثتها, رؤية الرئيس مبارك لمجابهة تحدي الأمن الغذائي في سياق التحول إلي اقتصاد سوق مفتوحة ودعوته إلي طرح خيارات بديلة. وأسجل أولا: أن العولمة لا تزال تتسم بعدم الإنصاف في توزيع الفرص والمكاسب بين المجتمعات وداخلها. وهكذا, بعد مرور عشر سنوات من تعهد رؤساء دول وحكومات أكثر من180 دولة في قمة روما للأغذية أعلنت منظمة الأغذية والزراعة( الفاو), في تقريرها عن' حالة انعدام الأمن الغذائي' لعام2006, أنه لم يتم إحراز أي تقدم فعلي. فقد زاد عدد الجوعي, علي الرغم من توافر المزيد من الغذاء وإمكانية إنتاج المزيد دون ضغط كبير علي الأسعار بفضل توافر المعرفة والموارد اللازمتين. وبينما أكد إعلان الألفية الالتزام بحق الإنسان في الحصول علي الغذاء وحدد هدفه الأول بخفض نسبة ناقصي التغذية بمقدار النصف بحلول عام2015, فإن تحقيق هذا الهدف كان يستوجب خفضا سنويا في أعدادهم يزيد علي عشرة أمثال التخفيض الذي تحقق فعليا خلال الفترة1990-.2003 وثانيا: أنه لا ينبغي الرهان علي انخفاض فاتورة واردات مصر من القمح بحيث تتراجع عن التطلع إلي تقليصها. والأمر- كما يبين تقرير الفاو- أنه' إذا ما تحقق النمو المتوقع في إنتاج الحبوب لعام2008 فقد تخف أزمة الإمدادات الدولية من الحبوب في موسم2008-2009'. لكنه يستدرك فيقول' إن الظروف المناخية المواتية ستكون لها أهمية حاسمة.. لأن مخزونات الحبوب الاحتياطية في العالم قد نفدت.. وأي انخفاضات رئيسية ناجمة عن الظروف المناخية غير المواتية ستطيل الأزمة الراهنة وسترفع أسعار الغذاء وتفاقم الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها فعليا اليوم العديد من البلدان'. ويتوقع تقرير الفاو في11 أبريل2008, أن تزيد فاتورة واردات البلدان الفقيرة من الحبوب بنسبة56 بالمائة في موسم2007-2008, بعد أن زادت بنسبة37 بالمائة في موسم2006-.2007 وثالثا: أن أسعار القمح والأرز والذرة والألبان والزيوت ومواد غذائية أساسية أخري قد ارتفعت ارتفاعا حادا, وذلك علي الرغم من إجراءات تقييد الصادرات وتقديم الإعانات وخفض التعريفات وتحديد الأسعار في البلدان المصدرة والمستهلكة للحبوب بهدف تخفيف آثار ارتفاع الأسعار الدولية للأغذية, كما يوضح تقرير الفاو. وقد واجه37 بلدا في شتي أنحاء العالم أزمات غذائية, ترتبت عليها أحداث شغب في مصر والكاميرون وكوت ديفوار والسنغال وبوركينا فاسو وإثيوبيا وإندونيسيا ومدغشقر وهاييتي, ودفعت إلي نشر القوات المسلحة لتفادي السطو علي الأغذية من الحقول ومخازن السلع في باكستان وتايلاند! في هذا السياق, أعلن الرئيس مبارك دون مواربة أن مشكلة الخبز رغم توافر دقيقه لا تعدو' مشكلة إدارة ورقابة ومحاسبة'. وأعلن وزير الزراعة الفرنسية أنه يجب علي الحكومات أن تتحرك لوضع ضوابط لأسعار الأغذية المتزايدة, ومنع قوي المضاربة من التحكم فيها, مؤكدا أنه,' لا ينبغي ترك الغذاء تحت رحمة السوق والمضاربات'! ورابعا: إن إنجاز مصر في مواجهة تحدي الأمن الغذائي في عهد مبارك يعزز ما أعلنه وبحق من' إن لدينا مشكلات وتحديات وصعابا, لكنها لا تستعصي علي الحل'. وقد سجلت في مقالين سابقين أنه بعد أن تراجعت نسبة الاكتفاء الذاتي المصري من القمح ودقيقه من نحو70 في المائة في عام1960 إلي نحو25% في عام1980! تمكنت مصر من رفع هذه النسبة إلي نحو43 في المائة في النصف الأول من التسعينيات ثم إلي55 في المائة في سنة2000, رغم تضاعف عدد السكان. وارتبط هذا الإنجاز من حيث الأساس بتحسن كبير في انتاجية الفدان من القمح بفضل إدخال أصناف جديدة, وأدي إلي تحسن حالة الأمن الغذائي الإنساني في مصر; حيث ارتفع انتاج الأغذية بمعدل بلغ نحو ضعف معدل الزيادة السكانية وارتفع متوسط نصيب الفرد من إنتاج الأغذية. وأثمر الإنجاز تراجعا مشهودا في اعتماد مصر علي المعونة الغذائية من القمح والدقيق, بحيث انخفضت من نحو20 في المائة من الاستهلاك في سنة1990 إلي نحو2,0 في المائة فقط في سنة.2000 وخامسا: أن استهلاك مصر من القمح قد تضاعف من نحو7 ملايين طن في عام1980 إلي نحو15 مليون طن في عام2007, وزاد متوسط نصيب الفرد من استهلاك القمح من نحو171 كيلوجراما في عام1980 إلي نحو180 كيلو جراما في عام2008. وبعد أن هبطت واردات مصر من القمح من نحو7 ملايين طن في المتوسط سنويا خلال الفترة1985-1989 إلي أقل من5 ملايين طن في المتوسط سنويا الفترة1995-2000, عاودت الواردات الزيادة وارتفعت مجددا إلي نحو7 ملايين طن, لتشغل مصر المرتبة السابعة عالميا من حيث قيمة واردات الحبوب, والمرتبة15 من حيث قيمة العجز الزراعي, وفقا لتقرير التنمية في العالم لعام2008. ولا يقلل من تكلفة فجوة القمح والحبوب وما تعنيه من انكشاف تنويع مصادر استيرادها بعد أن كانت تكاد يقتصر علي الولاياتالمتحدة. وسادسا: أن التراجع عن مواصلة الإنجاز المشهود في مجال تحقيق الأمن الغذائي, ارتبط بعوامل تجسد أهم تحديات التنمية الاقتصادية في مصر. وبين هذه العوامل: ارتفاع معدل الاستهلاك علي حساب الادخار والاستثمار كما يجسده الهدر في استهلاك القمح, وانخفاض معدل الإنفاق الحكومي علي البحث والتطوير في قطاع الزراعة, وتراخي الاستثمار الخاص في استصلاح واستزراع ما وفره الاستثمار العام من فرص للتنمية الزراعية في المشروعات الزراعية القومية الكبري في توشكي وشرق العوينات وسيناء, واستمرار الاعتداء علي الأرض الزراعية, والاستهلاك غير الرشيد لمياه الري بتجاوز مقننات زراعة الأرز الشره للمياه. ولعل أهم العوامل هو تراجع الاستثمار في الزراعة إلي إجمالي الاستثمار القومي خلال الخطة الخمسية المنتهية في2007/2006, في اتجاه مضاد لارتفاعها في الخطط السابقة منذ عام1982/81, ولصالح الاستثمار العقاري غير الانتاجي! وهو ما نجم عن عدم كفاءة تخصيص الموارد نتيجة قصور ضبط قوي السوق وغياب المسئولية الاجتماعية لرأس المال وصعود الليبرالية الاقتصادية والتبشير بفرص العولمة دون مخاطرها! وسابعا: أن الأمين العام للأمم المتحدة قد حذر وبحق من أن' الأزمة الغذائية قد تسفر عن عواقب سياسية وأمنية خطيرة وأضاف: لا نحتاج فقط إلي تدابير عاجلة لتجنب المجاعة في كثير من مناطق العالم, بل' نحتاج إلي زيادة جوهرية للإنتاجية في مجال الزراعة'.وفي مصر, نظرا لمحدودية الأراضي الصالحة للزراعة والموارد المائية المتاحة, فإن زيادة إنتاج المحاصيل الغذائية تتوقف بدرجة حاسمة علي رفع الإنتاجية. وقد استخدمت مصر أصنافا عالية الغلة من الحبوب لبلوغ ما حققته من إنجاز بيناه. والأمر, كما تبين دراسة الدكتور جمال صيام للفاو, أن فرصة وصول صغار وفقراء الفلاحين علي هذه البذور ستضيق بسبب ارتفاع تكاليف استيراد البذور عالية الغلة في ظل اتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية. ورغم أن مصر مصنفة ضمن البلدان التي تعاني عجزا في الغذاء, فإنها ليست مصنفة ضمن البلدان منخفضة الدخل التي يمكنها نيل معاملة تفضيلية في إطار منظمة التجارة العالمية. وفي ظل احتكار الشركات العملاقة متعددة الجنسيات للأصناف المحسنة, التي تفرض أسعارا احتكارية لا تعرف الرحمة, لا بديل لمصر إلا مضاعفة انفاقها علي البحث والتطوير. وأخيرا, أزعم أن خطاب مبارك, مع تنبيه الأمة بمخاطر الصدمات الخارجية, تضمن مفهوما' لاقتصاد سوق اجتماعية', مفتوحة ومنضبطة ومتقدمة, ترتكز إلي بناء توافق وطني: ينحاز لمحدودي الدخل, ويحقق العدالة الاجتماعية, ويشدد علي المسئولية الاجتماعية للمستثمرين, ويربط الأجور بالأسعار, ويعزز الأمن الاقتصادي والغذائي, ويرفع معدلات الاستثمار والنمو, ويرتقي بالانتاجية والتنافسية, ويعلي قيمة العمل, ويتصدي للفساد والمضاربة. وتبقي دعوة الرئيس الهامة للمعارضة بطرح بدائل بدلا من التحريض موضوعا لإطلالة أخري تتناول الرؤي المطروحة لإدارة اقتصاد مصر وتحقيق أمنها الغذائي في عصر العولمة. عن صحيفة الاهرام المصرية 4/5/2008