أدهشت خيري شلبي .. "ملحمة السراسوة" سيرة عائلة تكشف سيرة وطن محيط – سميرة سليمان الغلاف في "ملحمة السراسوة" يتتبع الكاتب أحمد صبري أبوالفتوح رحلة خروج الأسرة المصرية التي انحدر منها إلى الريف المصري، ساردا أحداث وتفاصيل تزاوج بين أفراد الأسرة وتاريخ الوطن بأكمله على مدى قرنين من الزمان ، وقد وصفها الروائي الكبير خيري شلبي خلال الأمسية النقدية التي عقدت أمس بالمجلس الأعلى للثقافة بأنها ملحمة تنتمي إلى الأدب الشريف ولا تجاري التيار السائد في الروايات والذي يسعى للتجرؤ بلا داعي وبكل همجية على التابوهات الجنسية والدينية لأغراض الشهرة ، مبديا دهشة من قدرة المؤلف على جعل التاريخ المصري والعربي واقعا معاشا على الصفحات أمام القاريء . وقد ركزت الندوة في مناقشاتها على الجزء الاول من الملحمة بعنوان "الخروج" ، وشارك بها إلى جانب خيري شلبي ، القاص جار النبى الحلو، الناقد د. سامى سليمان، الروائى فؤاد قنديل ، وأدار الجلسة الناقد د. يسرى عبد الله. من جهته أوضح المؤلف أن ملحمة السراسوة هي خماسية روائية كالآتي: "الخروج"، "التكوين"، "أيام أخرى"، "شياطين وملائكة"، و"حكايات أول الزمان". تتبع رحلة أسرة منذ خمسينيات القرن الثامن عشر حتى الآن، ?ويتصادف أن الأحداث الكبيرة في حياة هذه الأسرة تواكبت مع أحداث كبري في تاريخ مصر مثل قدوم الاحتلال الفرنسي،? ?ووصول محمد علي باشا لسدة الحكم،هذه المرويات تناقلتها الأسرة عبر الأجيال، قائلا : وكان من حظي أن عاصرت أهم الحكائين في هذه الأسرة وهما: جدتي لأبي وأبي الراحلين. والرواية عبارة عن فصول من تاريخ أسرة "السراسوة" التى ينتسب إليها اسم المدينة الشهيرة ب"سرس الليان" فى دلتا مصر، تلك الأسرة التى تضرب بجذورها فى الطبقة المتوسطة المصرية بكل أحلامها وآلامها، عندما كانت تقبع تحت قيود "الالتزام" الذى فرض فى عصر محمد على. وقد اتفق النقاد على أن الرواية ملمح مهم في المشهد الروائي العربي، وتحول مثير باتجاه الرواية المعرفية التي أصبحت على وشك الإندثار الآن . و"السراسوة" مؤلفة من خمسة أجزاء، أتم مؤلفها كتابتها جميعا في ثلاث سنوات ونصف ، نشر الجزء الأول منها، والجزءين الثاني والثالث قيد الطباعة والنشر الآن، بينما الجزءين الرابع والخامس فلن يقوم بنشرهما في حياته لأسباب عائلية، وأوصى أبناءه بنشرهما بانتهاء تلك الأسباب، وكان هذا سبب ترك نهاية الجزء الثالث من الرواية مفتوحا! جانب من مناقشتها رواية مختلفة في كلمته اقتبس الروائي خيري شلبي كلمة إمام الصوفية محيي الدين بن العربي " كل فن لا يخدم علما لا يعول عليه" مؤكدا انطباق هذا القول على "ملحمة السراسوة" فهي رواية عظيمة لأنها تخدم علما وتخدم التاريخ، مشيرا إلى استفادة العلم بالأدب في عصر النهضة الأوروبية مدللا على ذلك برواية "الجريمة والعقاب" لديستوفيسكي التي قامت عليها نظرية في علم النفس تحمل اسمها واعتمد العالم النفسي على الرواية في وضع نظريته. ويرى شلبي أن الأدب الشريف لا يتسلق على الظواهر الاجتماعية السطحية ويعيد إنتاجها ليكرسها من جديد في الواقع ويثبتها، أو يضرب بجرأة هوجاء غير محسوبة في التابوهات الجنسية والدينية ليلفت الانظار إليه ويحقق شهرة كاذبة، هذا النوع من الأدب في رأي شلبي هو الذي أفقد الأدب العربي رشده، وحوّل المجتمع المصري إلى جسد مليء بالبثور والدمامل، وإلى نفسية مريضة بالجذام النفسي يعمل على تغييب الشعب المصري في ضلالات وزيف الكاتب الشخصية التي لا نجني من ورائها سوى مزيدا من الانحدار. كما اعتبر خيري شلبي أن تميز الملحمة جاء نتيجة بعد الكاتب عن كل هذا الزيف والانحطاط، وكشفت عن سيطرته الحقيقية على أدواته ولغته، بالإضافة إلى البناء الفني المتماسك، متابعا : "لدرجة أنني حزنت لإنتهاء الرواية التي كنت أرغب في مواصلة تتبع رحلة عائلتها الغريبة التي استطاع الكاتب أن يجعل منها تلخيصا للشعب المصري حيث يرينا كيف نشأت الملكية الزراعية، وكيف نشأت الطبقة المتوسطة الزراعية التي قامت مصر المعاصرة على أكتاف أبنائها، فكل رجالات مصر العظماء أمثال سعد زغلول، طه حسين، ومصطفى النحاس وغيرهم من المطربين والملحنين أيضا هم أبناء هذه الطبقة المتوسطة الزراعية، التي شاهدنا لأول مرة في الأدب المصري كيف نشأت وكيف ناضلت ضد الحكم العثماني الغاشم من جهة، وضد العربان الذين توغلوا بسلطانهم وكراهيتهم الأزلية للفلاحين المصريين من جهة أخرى". ويتابع صاحب "صحراء المماليك" إشادته بالرواية التي يؤكد انحيازه إليها، أن الكاتب نجح في توصيف شخصياته بدقة، متابعا "حتى أنه خيل إلى أنني أعيش الرواية لا اقرأها فقط!، وذلك بفضل الكاتب الذي استطاع أن يحول التاريخ من مجرد معلومات مدرسية في أذهاننا، إلى مادة حية، فشاهدنا عن قرب عصر محمد علي باشا وأولاده وقيام مصر الحديثة، الأمر الذي جعل المسافة بيننا وبين تلك الشخصيات حميمية، بالإضافة إلى دفع الكاتب لنا كي نتعاطف مع بعضهم ونكره البعض الآخر ونعيش معهم كأنهم أناس نعرفهم ونعاشرهم وسوف نقابلهم بعد لحظة". ويبدي شلبي دهشته من قدرة المؤلف على الإلمام بالتاريخ والتوغل فيه، وجعل ظلاله البعيدة تمتد لتشمل واقعنا الآن فالصراع بين الإخوة في الرواية فيها قد عكس الصراع بيينا وبين العدو الاسرائيلي، مؤكدا أن مثل هذه الأعمال الرائعة هي التي تستفزه وتدفعه للكتابة، لشعوره بأنه وسط مجموعة من الأذكياء الذين سيدركون ما يكتبه ويقدرونه حقا. فرار السراسوة قدم القاص جار النبي الحلو سردا لأحداث الملحمة مشيرا إلى أن بداية خروج هذه الأسرة جاء بسفر موسى السرسي الشاب الصغير - وهو شخصية حقيقية كتب عنه الجبرتي- إلى القاهرة ليتعلم في الأزهر الشريف فأصبح من علماء الأزهر، ثم يصبح عضوا في ديوان نابليون بونابرت، ليصبح من الأثرياء ويلتقي بنفيسة خاتون زوجة علي بك الكبير بعد موته، ويقوم على خدمته في هذا المجلس "قفل" الذي سيصبح ذو أهمية كبيرة في مستقبل العائلة بعد ذلك. ويتابع : يظهر "قفل" مرة أخرى ليس كخادم هذه المرة بل كفتى مدلل عند محمد علي باشا الذي يرسله إلى "منوف" و"سرس الليان" ليكون هو المسئول عن جمع الضرائب من الفلاحين والملاك، ولأن انحناءه ذات يوم أمام موسى السرسي يمثل له ماضي بغيض فقد حاول أن يخضع كل عائلة السرسي لنفوذه، ثم يسمع عن مريم بنت العائلة ويدعى أنها تعايره بأصله كخادم، فيقرر أن يتزوجها لينال منها، هنا تقرر العائلة قتله والخروج بكل ما يمتلكون إلى طنطا، ويبدأوا في الترحل والانتقال من مكان لآخر، ويصبح حلم العائلة هو استعادة مجدها وقوتها، التي ضحت به في سبيل الحفاظ على شرفها. من جهته أشار مقرر الندوة الكاتب يسري عبد الله إلى أن النص الذي بين أيدينا يحوي جدلا خلاقا ما بين التاريخي والجمالي، فالتاريخ هنا لم يكن متنا في الرواية بل كان رصد التحول الاجتماعي هو الأساس. ويؤكد عبد الله أننا في "ملحمة السراسوة" أمام إعادة الاعتبار لمتعة القراءة بوصفها اعتبارا أدبيا خالصا لا تخطئه عين، حيث تتداخل الحكايات وتتقاطع لتخلق بنية سردية متجانسة ومتناغمة، وتعد الملحمة أيضا ممثلة لجدارية حقيقة عن عصر بأكمله، حيث تعتمد على تيمة معروفة في القص الشعبي هي "الارتحال"، وتأتي كاشفة عن مصائر شخوص وتحولاتهم وعلاقتهم بالأمكنة المختلفة فضلا عن إلحاحها على الصراع الدائر بين الأعراب والفلاحين . ثقافة المؤلف مؤلف الرواية حاول الكاتب فؤاد قنديل في كلمته التعرف على سمات الكاتب من خلال روايته "التي أعادت الاتزان إلى الحركة الثقافية المصرية والعربية" على حد وصفه، ويرى أن المؤلف كان صبورا بالإضافة إلى قدرته البديعة على رسم الشخصيات، وثقافته المتنوعة التي يمتلكها فنرى لديه ثقافة قانونية، وسياسية، وتاريخية، وجغرافية حيث يعرف مثلا وجه بحري كله بحاراته وأزقته وترعه، وقنواته الصغيرة "أكثر من معرفته بكف يده". كما أنه وصّاف جيد يكشف كثير من الأسرار التي قد لا يعرفها القارئ مثلا عن حالات ولادة بعض الحيوانات، ويحكي لنا عن طعام الفلاحين وأسرارهم حكي العارف، بالإضافة إلى رؤيته عن عصر محمد علي الذي يشيد به المصريون ويصفونه بأنه من بنى مصر الحديثة ، بينما يكشف الراوي عن الوجه الآخر لمحمد علي الذي لا يعرفه سوى الأجانب ، فقد قدم بالفعل خدمات جليلة لمصر ولكن على حساب المصريين الذي كان يطحنهم كالسمسم لاستخلاص خيراتهم. ولكن قنديل عاب على المؤلف إلغاءه المسافات الزمنية بينه كراوي يعد حفيد العائلة ، وبين زمن الأحداث التي وقعت قبل أكثر من 200 سنة، ولكن هذا النقد اعترض عليه خيري شلبي بقوله : الرواية بها راو مجهول يمثل تلك العائلة المولعة بتاريخها والتي ينبغ فيها الحكائون، وهو يختلف عن الراوي الذي يحكي ووظيفته لملمة المادة الغزيرة المتدفقة باستمرار الممتدة على مساحة 150 سنة وأكثر. أما الناقد د. سامي سليمان فقال أن الملحمة تحوي مادة روائية هائلة أبطالها هم عدة أجيال ينتمون إلى عائلة واحدة وهي عائلة "السرسي"، تبدأ أحداث الرواية منذ أواخر القرن 18 ثم تمتد إلى الآن. ويرى أنها يمكن أن تدرج في إطار الروايات التاريخية، فهي تحكي عن التاريخ الاجتماعي بامتياز، وتعيد تقديمه حيث تكشف عن تاريخ المشاعر والأفكار والنبضات الحقيقية في عائلة "السرسي" الذي لن يستطع الكاتب أن يصوره بدقة دون أن يتوقف أمام التاريخ وأحداثه ، وقد جعل أبطال روايته مثاليين شأنه شأن كتاب الملاحم ، كما احتفت روايته بدور المرأة المناضل لحفظ تماسك العائلة . ويدلل الناقد على أن الراوي في الملحمة عارف حقا حينما شرح بشكل مفصل نظام "الالتزام"، كما شرح لأنواع الضرائب وطرق جبايتها، ووسائل التحايل التي كان يقوم بها المنتفعون للأرض حتى يتهربوا من دفعها.