الوزير الشاعر غازي القصيبي .. وداعاً محيط – سميرة سليمان الشاعرغازي القصيبي "لا تتبعوني، دعوني، واقرأوا كتبي، فبين أوراقها تلقون أخباري/ إن ساءلوكم فقولوا لم أبع قلمي، ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري!". كلمات قالها الوزير الشاعر السعودي الكبير غازي القصيبي الذي رحل عن عالمنا صباح اليوم عن عمر يناهز السبعين عاما، بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان. تقلد الراحل مناصب حكومية عديدة، منها وزارة الصحة والمياه والكهرباء إضافة لوزارة العمل التي رأسها حتى وفاته، إضافة إلى عمله سفيراًً للملكة العربية السعودية في عدد من الدول. ولكن هذا الوزير كان أديباً معروفاً أصدر نحو 20 كتابا ورواية، فضلا عن كم كبير من المشاركات الكتابية والمحاضرات وغيرها، وفي الرواية نجد له : "شقة الحرية"، "العصفورية"، "سبعة"، "هما"، "سعادة السفير"، "دنسكو"، "سلمى"، "أبو شلاخ البرمائي"، و"الجنية". وفي الفكر صدرت له كتب : "التنمية"، "الأسئلة الكبرى"، "الغزو الثقافي"، "أميركا والسعودية"، "ثورة في السنة النبوية"، "حياة في الإدارة"، إضافة للإسهامات الصحفية التي من أشهرها سلسلة مقالات "في عين العاصفة" التي نُشرَت في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية إبان حرب الخليج الثانية. وكان الراحل يعيش نظاما صارما، فلا يخرج من بيته أو يشارك في المناسبات إلا ليلتين في الأسبوع، ويمضي البقية قراءة وكتابة، وتكريما له منح وسام الملك عبد العزيز وعدداً من الأوسمة الرفيعة من دول عربية وعالمية. وقد كتب آخر قصائده باسم "الوداع" قال فيها : أغالب الليل الحزين الطويل/ أغالب الداء المقيم الوبيل/ أغالب الآلام مهما طغت/ بحسبي الله ونعم الوكيل روايات القصيبي كان الراحل بصدد الانتهاء من رواية بعنوان "الزهايمر" والتي نوهت عنها صحيفة "الجزيرة" السعودية، وهي الرواية التي ستصدر عن دار"بيسان" اللبنانية. تدور حول شخصية "يعقوب العريان" الذي ينسى اسم زجاجة العطر التي اعتاد إهداءها لزوجته التي تصغره بربع قرن؛ فأدرك حينها انفلات التفاصيل الصغيرة من ذاكرته، وأحس أن التفاصيل الكبيرة في طريقها للضياع، وقرر السفر متذرعاً برحلة عمل بينما كانت وجهته إلى طبيبه البروفسور جيم ماكدونالد رئيس مركز "الزهايمر" في جامعة جورج تاون الذي وصف له مصحة خاصة بمشاهير وأثرياء العالم المصابين بهذا المرض أو "صفوة الصفوة" كما وصفهم، ومنهم "باري جولدووتر، ريتا هيوارث، شارتون هيستون، الملكة جوليانا"، وآخرون أشهرهم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان الذي قال عن المرض: إنه مرض جميل حيث تقابل الأشخاص أنفسهم وتظن أنك ترى وجوهاً جديدة كل يوم. أما أولى روايات القصيبي "شقة الحرية" فقد صدرت عام 1994، وتحكي واقع الشباب العربي خلال الفترة "1948 - 1967"، حيث يعيش أبطال الرواية في شقة في مدينة القاهرة، وسط أجواء فكرية وسياسية عاصفة، وكانت الرواية ممنوعة في السعودية إلى وقت قريب. وفي روايته "دنسكو" التي كتبها بعد فشله في الفوز بمنصب مدير منظمة الأممالمتحدة للثقافة والعلوم "اليونسكو" في العام 1999، يتناول قصصا لعدة مرشحين للمنظمة من قارات مختلفة، حيث وعد القصيبي، أثناء ترشحه للمنصب بكتابة رواية إذا لم يفز !. وتبلغ السخرية من الواقع العربي مداها في رواية "أبو شلاخ البرمائي" الصادرة في العام 2002، حيث يسخر القصيبي من الناس والزعماء في العالم العربي، الذين يدعون امتلاك القدرات الخارقة ومعرفة كل شيء. كتب في إحدى قصائده يقول : خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ/ أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟/ أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت/ إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟/ أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا/ يحاورونكَ بالكبريتِ والنار/ والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بقِيَتْ/ سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ/ بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! / وشكا قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري. قرار الافراج لم يمهل القدر غازي القصيبي ليفرح بقرار رفع الحظر الذي أصدرته السعودية عن كتاباته حيث كان المنع من نصيب كل أعماله التي أزعجت المؤسسة الدينية الرسمية بالسعودية، وكذلك زعيم تنظيم القاعدة أسامة ابن لادن. فبعد سنوات طويلة من المنع والمصادرة، أصدر وزير الثقافة والإعلام السعودي الدكتور عبدالعزيز خوجة توجيهاً بفسح جميع مؤلفات وزير العمل السعودي الأديب الدكتور غازي القصيبي, موضحاً أنه صاحب إسهامات كبيرة في خدمة الوطن وليس من اللائق أن لايتوفر نتاجه الفكري في المكتبات داخل السعودية. يُشار إلى أن الكثير من كتب القصيبي لم تتم إجازتها من قبل رقابة المطبوعات لدخول السعودية, وقد عُرف عنه تندره بذلك وترديده الدائم بأن المنع يخدم العمل الأدبي ويزيد شهرته. أما بداية الجدل حول مؤلفات القصيبي فانطلقت بحسب تقرير أعده قبل سنوات الصحفي السعودي رباح القويعي بمشاحنات من جانب بعض الوعاظ "الدعاة" مع إصداره لديوانه الشعري الثالث "معركة بلا راية" عام 1970، إذ ساروا في وفود وعلى مدى أسابيع عدة، نحو الملك فيصل لمطالبته بمنع الديوان من التداول، وبعد أن شكلت لجنة ضمت وزراء العدل والمعارف والأوقاف لمحاكمة الديوان، انتهوا جميعاً إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلق! وكان القصيبي يستشهد بقول الأديب السوري محمد الماغوط: "ما من موهبة تمر بدون عقاب" ويضيف عليها: "وما من موقف يمر بلا ثمن !". ويحوز القصيبي على احترام الإصلاحيين في بلده بسبب جرأته في تصوير مشاكل المجتمع السعودي، أيضا أثار تقديمه لرواية "بنات الرياض" للروائية السعودية رجاء الصانع معركة كبرى نظرا لانتقاد الرواية للمجتمع السعودي. مشوار العمر في بيئة "مشبعة بالكآبة"، كما يصفها هو كانت ولادته، التي وافقت اليوم الثاني من شهر مارس عام 1940، فبعد تسعة أشهر من ولادته توفيت والدته، وقبل ولادته بقليل كان جده لوالدته قد توفي أيضا، وإلى جانب هذا كله كان بلا أقران أو أطفال بعمره يؤنسونه. في ذلك الجو، يقول غازي، "ترعرعت متأرجحا بين قطبين أولهما أبي وكان يتسم بالشدة والصرامة وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على الصغير اليتيم". ومن هذا الجو خرج هو بحكمة طبقها في حياته مفادها: أن "السلطة بلا حزم، تؤدي إلى تسيب خطر، وأن الحزم، بلا رحمة، يؤدي إلى طغيان أشد خطورة. قضى القصيبي في الأحساء سنوات عمره الأولى، انتقل بعدها إلى المنامة بالبحرين ليدرس فيها مراحل التعليم، نال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة عام 1961 ثم تحصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، فعاد إلى الرياض عام 1964، في 1967 غادر نحو لندن، ليحضّر الدكتوراه هناك، وكتب رسالته حول حرب اليمن، ثم عاد إلى الرياض في 1971، ليبدأ مشواره العملي، ويصل إلى مجلس الوزراء بعد أربع سنوات في التشكيل الوزاري الذي صدر عام 1975 م. ثم عُيّن وزيرا لوزارة الصناعة والكهرباء، ثم وزيرا للصحة، حيث أنشأ جمعية أصدقاء المرضى، فضلا عن تعزيز عملية التبرع بالدم وبث ثقافتها وتحفيز المواطنين نحوها، ثم صدر أمر ملكي بإعفاء الوزير القصيبي من وزارة الصحة بسبب قصيدة له أشاد فيها بالفدائية الفلسطينية آيات الاخرس التي فجرت نفسها في سوق في القدس مما أدى إلى مقتل اثنين من الإسرائيليين، وكان ذلك في أواسط عام 1984، يقول غازي عن الإعفاء أنه كان "دراما إنسانية معقدة"، وبعد شهر واحد فقط، صدر تعيينه سفيرا للملكة في دولة البحرين، وبقي كذلك لثماني سنوات، حتى صدر قرار تعيينه سفيرا للمملكة في بريطانيا، وظل هناك طوال إحدى عشرة سنة، ليعود من السلك الدبلوماسي نحو الوزارة، وزيرا للمياه ثم المياه والكهرباء بعد أن دمجتا في وزارة واحدة، لينتقل مؤخرا نحو وزارة العمل. مع أشعاره .. توالت إصدارات غازي القصيبي الشعرية منها "صوت من الخليج"، "الأشج"، "اللون عن الأوراد"، "أشعار من جزائر اللؤلؤ"، "سحيم"، و"للشهداء". وكتب وهو على فراش المرض قصيدته "سيدتي السبعون" يقول فيها: ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟! لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً إذا التقينا ولم يعصفْ بيَ الجَذَلُ قد كنتُ أحسبُ أنَّ الدربَ منقطعٌ وأنَّني قبلَ لقيانا سأرتحلُ أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً بأيِّ شيءٍ من الأشياءِ نحتفل؟! ولكنه في نهايتها يقول : تباركَ اللهُ! قد شاءتْ إرادتُه ليَ البقاءَ.. فهذا العبدُ ممتثلُ! واللهُ يعلمُ ما يلقى.. وفي يدِه أودعتُ نفسي.. وفيه وحدَه الأملُ وفي قصيدة له بعنوان "متى يعلنون وفاة العرب ?!" يقول في بدايتها من غازي القصيبي إلى نزار قباني الذي سأل: متى يعلنون وفاة العرب: نزار أزف إليك الخبر/ لقد أعلنوها وفاة العرب/ وقد نشروا النعْيَ..فوق السطورِ/ وبين السطورِ..وتحت السطورِ/ وعبْرَ الصُوَرْ!. ويقول: نزارُ! أزفُّ اليك الخَبَرْ!/ وإيَّاكَ ان تتشرَّب روحُك/ بعضَ الكدَرْ/ ولكننا لا نموتُ...نظلُّ/ غرائبَ من معجزات القَدَرْ وفي نهايتها: نزارُ! أزفُّ اليكُ الخَبَرْ/ سئمتُ الحياةَ بعصر الرفات/ فهيّىءْ بقُرْبكَ لي حُفرِة!/ فعيش الكرامةِ تحتَ الحُفَر وكان إنسانا لمدى بعيد فقد كتب في قصيدته المؤثرة "رقم الهاتف" يقول: وعندما..يموت واحدٌ من صحبنا/ يموت بعض قلبنا/ ثم نعود بعد أن يجفّ دمعنا/ لدربنا/ للضّجر اليوميّ ..والرغبة..والإعياء/ وفجأة/ في دفتر الهاتف يطفو اسمه أمامنا/ ونلمح الرقم على الصفحة/ مغمورا بماضي حبّنا/ وباليد المرتجفة/ نشطب رقم الهاتف الصامت/ من دفترنا المسكون بالضجّة والأحياء/ نودعه ذاكرة الأشياء/ وفجاة/ نذرف دمعتين/ لأنّنا ندفن من نحبّه مرتين.