أنقذوا الأممالمتحدة من الولاياتالمتحدة! مرسى عطا الله لا يمكن لنا أن نمر مرور الكرام على الموقف الأميركي الأخير الذي برز بكل فجاجة في مشاورات مجلس الأمن الأسبوع الماضي، وأدى كما جرت العادة إلي إجهاض مشروع قرار من المجلس لدعوة إسرائيل لرفع حصارها عن قطاع غزة ومطالبتها بوقف اعتداءاتها الوحشية التي تطال المدنيين الأبرياء وتندرج تحت لافتة العقاب الجماعي المحرم دوليا وأخلاقيا . إن ما جرى يفرض علينا أن نعيد طرح السؤال المزمن حول الأممالمتحدة ودورها المعطل بفعل فاعل تجاه ما تمارسه إسرائيل من سياسات واعتداءات تتناقض تماما مع ميثاق الأممالمتحدة وبنود القانون الدولي ونصوص اتفاقيات جنيف؟ والحقيقة أنه لم يعد يخالج أحد على امتداد الكرة الأرضية أدنى شك في أن بيت الداء في أسباب عجز الأممالمتحدة يكمن في هيمنة الولاياتالمتحدة الأميركية بعد أن أصبح معروفا أن آلية صنع القرارات الدولية ترتهن في حركتها سلبا وإيجابا أو صعودا و هبوطا بما تقرره أميركا التي أصبحت توجهاتها وسياستها في الساحة الدولية نموذجا فجا لازدواجية المعايير ودون أدنى اعتبار لبنود الميثاق أو ضرورات احترام مقررات الشرعية الدولية .. ولهذا لايبدو غريبا ولا عجيبا أن يتراجع الشعور بالتفاؤل تجاه مصير الأممالمتحدة، وأن تبرز على السطح مخاوف كثيرة من أن تنال الأممالمتحدة مصير عصبة الأمم السابقة ! بل إنني أستطيع أن أمضي إلى أبعد من ذلك وأقول إنه لاتبدو هناك أي مساحة للتفاؤل في ظل هذا الكم الهائل من المشكلات والأزمات الدولية التي تقف منها الأممالمتحدة موقف المتفرج في شكل إعلان صريح بعجزها عن فرض مبادئ الحق والشرعية التي قامت المنظمة الدولية من أجلها لنشر الأمن والسلام وتحقيق العدالة والمساواة وصولا بالمجتمع الدولي إلي علاقات متوازنة ومتكافئة ! والحقيقة أنه ليس هناك نموذج صارخ لعجز الأممالمتحدة مثل نموذج الصراع العربي الإسرائيلي الذي تبدو فيه إسرائيل بفضل الحماية والدعم الأميركي وكأنها أكبر وأقوى من إرادة المجتمع الدولي الذي صدرت عنه قرارات واجبة التنفيذ ولم تنل من إسرائيل سوى الإهمال والازدراء وعدم الاكتراث! لقد بات واضحا أن أميركا وليس أحد سواها هي التي تشل إرادة الأممالمتحدة عن الحركة حتى الآن في قضية فلسطين التي تصاعدت تداعياتها إلي أعتاب حرب إبادة قد يصعب تطويقها، وساعتها سوف يصبح السلام والأمن في الشرق الأوسط بأكمله في مهب الريح؟ أليست الولاياتالمتحدة الأميركية هي التي غيبت دور المنظمة الدولية وسحبت كل أوراق النزاع من بين أيديها لكي تمارس لعبة بالغة الخطورة من خلال إصرارها على الانفراد وحدها بإدارة الصراع العربي الإسرائيلي وعدم قبولها لأي دور دولي مواز إلى الحد الذي أصبحت فيه اللجنة الرباعية الدولية مجرد واجهة ديكورية لتمرير السياسة الأميركية؟ إن من يتابع الشأن الدولي بدقة يجد أن المنظمة الدولية تتفرج منذ سنوات على مأساة إنسانية بشعة، حيث يزداد عدد اللاجئين والمشردين الفلسطينيين نتيجة استمرار إسرائيل في هدم المنازل والمخيمات ومواصلة استهداف كل مصادر الحياة من حقول وآبار للمياه .. إن الولاياتالمتحدة هي التي سحبت الملف الفلسطيني بأكمله من الأممالمتحدة لكي تتولى بدورها دور الراعي الوحيد لما يسمى بعملية السلام .. ثم إنها هي التي أغمضت عينيها لسنوات طويلة عن تلك الممارسات الإرهابية لآلة البطش العسكرية الإسرائيلية التي راحت تعيث فسادا في تهديد أمن واستقرار العديد من دول الشرق الأوسط؟! وهنا أقول بكل الوضوح إن الخطأ كل الخطأ أن يستمر صمت وعجز المجتمع الدولي في مواجهة الإصرار على تهميش دور المنظمة الدولية تحت دعوى الأمل في تطوير قواعد التعامل الدولي من خلال نظام عالمي جديد يقال إنه مازال في طور التكوين! لقد جاءت الأحداث الأخيرة في قطاع غزة وما صاحبها من صمت وعجز في الأممالمتحدة لكي ترسخ اعتقادا في الساحة الدولية وبالذات في دول العالم الثالث بأن هذه المنظمة التي ولدت على ركام الحرب العالمية الثانية وشكلت مدخلا لبزوغ أمل في انتهاء عصر الاستعمار والقبول بالاحتكام للشرعية الدولية قد أعلنت إفلاسها، ويوشك البعض أن يستخرجوا شهادة وفاتها باسم ضرورات النظام العالمي الجديد الذي تنفرد الولاياتالمتحدة بالجلوس على قمته، وحتى إشعار آخر لايعلم أحد مداه! ان كل شواهد السنوات الأخيرة تؤكد انتهاء حقبة النشاط والفاعلية للمنظمة الدولية التي عاشتها على مدى يقرب من نصف قرن قبل أن تهب عاصفة المتغيرات الدولية وتطيح بدورها وتأثيرها، لكي تصبح بكل أجهزتها وآلياتها مجرد أمانة عامة في نيويورك، مهمتها تحسس اتجاه الريح في واشنطن قبل الإقدام على أي شيء! بل إن هذه الشواهد خصوصا مايجري على أرض فلسطين نسفت جميع الوعود التي واكبت انهيار النظام العالمي القديم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء عصر الحرب الباردة، وهي الوعود التي بشرت بعصر جديد يعاد فيه بناء وتنظيم الأممالمتحدة على أسس موضوعية لكي تكون قادرة على مواكبة المتغيرات الجديدة، وضمان تمثيل حقيقي للقوى الفاعلة والمؤثرة على مستوى العالم بدلا من استمرار صيغة الخمسة الكبار في مجلس الأمن التي باتت عائقا بأكثر من كونها أداة فعل .. اللهم إلا إذا كانت الحركة المطلوبة والفعل المقصود هو ما يتوافق مع الرغبة والمشيئة الأميركية فقط! إن ميثاق الأممالمتحدة ينص على اضطلاع المنظمة الدولية بثلاثة أهداف أساسية هي : ترسيخ السلام والأمن وتنمية علاقات الصداقة بين الأمم في إطار مبدأ المساواة في الحقوق وحرية تقرير مصير الشعوب، فضلا عن هدف تعزيز التعاون الدولي على كل صعيد .. فهل ما نشهده على المسرح الدولي منذ سنوات مع بداية الحديث عن نظام عالمي جديد، وبدء هبوب رياح العولمة، يجيء معبرا عن وجود دور فاعل للأمم المتحدة بشأن هذه الأهداف؟ لقد أصبح السلام والأمن في كل مكان رهنا بدور أساسي تمارسه الولاياتالمتحدة تفاوضا أو إجبارا بكل أدوات الإجبار التي تبدأ بفرض العقوبات وتنتهي بالاستخدام المباشر للقوة المسلحة .. وبالنسبة للهدف الثاني من أهداف المنظمة، فإنه لم يعد هناك أي دور ملموس للأمم المتحدة في تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق وحرية تقرير مصير الشعوب، وإنما أصبح ذلك رهنا بالقياسات والقواعد التي تحددها الإدارة الأميركية وحدها إذا شاءت ثم تشير للأمم المتحدة بتوفير الغطاء الشكلي ورفع علم الأممالمتحدة ووضع بادج المنظمة الدولية على سيارات قوات حفظ السلام التي ترسل هنا أو هناك ويتم تشكيلها بالتشاور الوثيق بين نيويوركوواشنطن. ربما فقط يجوز القول : إن بعض ملامح الهدف الثالث من أهداف قيام المنظمة، وهو تعزيز التعاون الدولي على كل صعيد، مازال له قدر من الوجود المحسوس من خلال بعض المنظمات التابعة للأمم المتحدة مثل اليونسكو .. ومع ذلك فإن هذه المنظمات غير مسموح لها بالخروج عن الطاعة الأميركية وإلا تعرضت لعقوبات المنع والمنح! وخلاصة القول : إن الأممالمتحدة التي قامت لكي تكون انعكاسا صادقا لشفافية الإرادة الدولية أصبحت مرآة فاضحة لغطرسة المشيئة الأميركية إلي الحد الذي أصبح فيه اختيار الأمين العام للمنظمة الدولية أو عزله رهنا في المقام الأول بالرضا أو الغضب الأميركي فقط! ومعنى ذلك أن الحلم الذي ابتهجت له البشرية قبل 63 عاما مضت عندما تصور المجتمع الدولي أنه قد وجد البديل الصحيح لعصبة الأمم التي انهارت وتفككت في أول اختبار جدي تحت دوي المدافع في الحرب العالمية لم يتبخر فحسب، وإنما تآكلت كل شواهده المرئية على أرض الواقع على ضوء ما نشهده مفزعا ومستفزا ومخجلا ضد الشعب الفلسطيني! ومعنى ذلك أيضا أنه لم تتخل الولاياتالمتحدة عن نزعات الهيمنة والانفراد بتسيير شؤون العالم وفق مشيئتها وحدها، وتقبل بإجراء إصلاح جذري وشامل في بنيان الأممالمتحدة بدءا من تعديل الميثاق، ووصولا إلى توسيع قاعدة التمثيل في الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن .. فإن مستقبل المنظمة سيكون في مهب الريح، ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي تلقى فيه الأممالمتحدة مصير عصبة الأمم التي سبقتها! ولكن للأسف الشديد فإن كل الشواهد لا تسمح لأحد بمخاطرة الرهان على امكانية أن تبادر الولاياتالمتحدة الأميركية من تلقاء نفسها بالدعوة لإصلاح المنظمة الدولية، لأن الأوضاع الراهنة هي الأنسب والأكثر ملاءمة لأهداف السياسة الأميركية التي لن تتغير إلا إذا وصلها صوت مسموع ومؤثر يؤكد عدم الرضا عن وجود الأممالمتحدة كمجرد ديكور تفتقر إلى الآليات المعبرة عن الإرادة الدولية . * * * وإذن ماذا ؟ إن علينا أن نشارك بفعالية في دق أجراس الإنذار حول مخاطر انهيار الأممالمتحدة خصوصا أن العالم لم يكن بحاجة إلى وجود مثل هذه المنظمة الدولية وتعطيل دورها طبقا لبنود ميثاقها بمثل ما يحتاجه اليوم في ضوء هذه الأزمات المتشابكة والمعقدة خصوصا في منطقتنا العربية التي تتعرض لهيمنة شرسة توحي بوجود مخططات لاستعادة عصور الهيمنة واستباحة حق التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. إن الشعوب التي ناضلت من أجل نيل حريتها واستقلالها واستردت حقها الكامل في صياغة قراراتها بعيدا عن كل أشكال الوصاية والهيمنة عليها أن تتكاتف سويا من أجل حماية الأممالمتحدة وضمان استمرارها وزيادة فاعليتها وتطويرها لكي تقود الطريق أمام ذلك النظام الدولي الوليد الذي يجرى التبشير به منذ سنوات ولم يتمخض سوى عن انفراد الولاياتالمتحدة بكل مفاتيح السياسة الدولية، بينما الحاجة تشتد الآن أكثر من أي وقت مضى للحفاظ على أهداف ومبادئ المنظمة الدولية حتى تستمر في الاضطلاع بدورها لمصلحة الجميع دون تمييز .. وحتى لاتتحول إلى منتدى للصفوة أو منتجع لقلة من الأغنياء والأقوياء . أريد أن أقول بوضوح إن إنقاذ هذا الصرح الدولي من الأزمة التي تحيق به والأخطار التي تهدده ينبغي أن يكون هو الهم والشاغل للجميع في هذا المنعطف التاريخي الذي تتعرض فيه قواعد وأسس النظام الدولي لهزات وزلازل مرعبة خصوصا وأن كل الشواهد تشير إلى أن حال الأممالمتحدة ينحدر من سيئ إلي أسوأ، وإلي أن محاولات تجميدها وتهميش دورها تتواصل وفق مخطط مرسوم يستهدف دفع الجميع إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء. لعلي أكون أكثر صراحة وأقول : إنه لم يعد كافيا أن نسمع من عواصم عديدة في العالم انتقادات حادة لهذه الأوضاع المختلة لأنها أشبه بصراخ مكتوم لايسمعه أحد، حيث الجميع مستغرقون في همومهم الذاتية والكل ينتظر أن تأتي مبادرة الاحتجاج بعيدا عنه حتى يتجنب الغضب الأميركي ! باختصار شديد أقول إنه لم يعد مقبولا أن يستمر الصمت إلى ما لا نهاية من جانب المتضررين من تهميش دور الأممالمتحدة وشل إرادتها ونحن في مقدمة المتضررين ... فما أهمية الأممالمتحدة إذا لم تحتفظ بالحد الأدني من دورها الذي يتيح للدول الأعضاء أن تدق أجراس التنبيه إلي خطر انهيار المعبد على رؤوس الجميع في ظل محاولات التهميش، لأن المنظمة الدولية لن تسترد عافيتها واعتبارها إلا بجهد دولي جماعي يدرك حجم الأخطار وحجم التحديات التي سيواجهها العالم إذا قدر لمخطط التهميش أن يتحول إلي تغييب كامل . ولست أظن أنه يمكن التحرك على طريق الحفاظ على هيبة ودور الأممالمتحدة دون أن تمتلك الدول والشعوب المقهورة شجاعة الإعراب عن مخاوفها وإعلان رفضها لكل سياسات الهيمنة . وفي اعتقادي أن هذا الخرس الفاضح الذي أصاب الأممالمتحدة وأقعدها عن الحركة الصحيحة في الاتجاه الصحيح إزاء ذلك الذي تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني قد جدد الشكوك والتساؤلات حول جدوى استمرار المنظمة الدولية .. وربما يزيد من قوة وصحة هذه الشكوك أن أغلب المشاهد المرئية على المسرح الدولي تشير إلى أن المنظمة الدولية تمضي في طريق التراجع والاختفاء، بعد أن تلاشى دورها المؤثر في معظم القضايا وأصبحت المنظمة في أحسن الأحوال مجرد غطاء للأهداف والسياسات التي تقررها الولاياتالمتحدة وحدها، بعيدا عن إرادة ومشيئة المجتمع الدولي، ممثلا في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي . ثم أقول في النهاية إن السلوك الأميركي الذي برز في السنوات الأخيرة يمثل دعوة صريحة للتطرف والتشدد واللجوء إلى العنف، كما أنه يوفر البيئة الملائمة لنمو جماعات الإرهاب التي تتحصن بقوة خلف هذه العناوين الفاضحة للانحياز الأميركي الذي يجسد ظلما صارخا وتغييبا غير مبرر لقواعد العدالة الدولية . ثم إنني أقول إنصافا للحقيقة إن العلة ليست في الأممالمتحدة ولا في مبادئها ولا في ميثاقها رغم الحاجة إلى التعديل والمراجعة وإنما العلة في أن الولاياتالمتحدة الأميركية استثمرت ما وقع في العالم من متغيرات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في تطويع المنظمة الدولية وتوجيه دفتها وفق أهدافها ومصالحها فقط، خصوصا بعد أن وفرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أجواء هستيرية لدعاة الهيمنة وأصحاب نظرية الضربات الاستباقية لتأكيد الانفراد الأميركي بكل مفاتيح اللعبة الدولية . وهذا هو الخطر الكبير الذي يتعامى البعض عن رؤيته رغم أن أحدا لن يسلم من شروره إذا وقعت الواقعة لا قدر الله ولحقت الأممالمتحدة بالمصير المشؤوم لعصبة الأمم ! وأظن أن الذين قالوا في استفتاء رسمي أوروبي قبل عدة سنوات بأن إسرائيل تمثل أكبر خطر يهدد الأمن والسلام العالمي كانت لديهم قراءة مماثلة لما ورد في السطور السالفة. وعلى الذين وقفوا موقف الصمت من محاولة تصدير مشكلة الوضع اللاإنساني في غزة إلى مصر أن يضعوا في اعتبارهم أن الخطر لايتهددنا وحدنا وإنما هو خطر يتهدد الجميع، لأن فقدان الثقة في الأممالمتحدة لن يكون فقط مجرد بداية النهاية لها وإنما سيكون بداية ذهاب الجميع باتجاه المجهول ! عن صحيفة الوطن القطرية 9/2/2008