رهان السادات.. ورهان هيكل حازم عبدالرحمن كنا مجموعة من الصحفيين العرب في مهمة بالاتحاد السوفيتي بين شهري سبتمبر وديسمبر1989, تلك الأيام المجيدة في حياة الشعوب السوفيتية وشعوب شرق أوروبا, وكان المدهش أن الغالبية العظمي من الزملاء العرب يعارضون موجات المد العاتي بين هذه الشعوب للانعتاق من أسر وقبضة الدولة السوفيتية الخانقة, وأذكر أن المحاضرين كانوا يتوجهون لنا بسؤال: لماذا تعتبرون تحررنا وتمتعنا بنفس مستوي الحريات السياسية التي يتمتع بها أقراننا في الولاياتالمتحدة وغرب أوروبا ضد مصالحكم؟.. لماذا يجب أن نخضع في روسيا وشرق أوروبا لنظم حكم مستبدة وظالمة لكي نظل أصدقاء لكم؟ (1) صدمتني بشدة, الطريقة التي تعامل بها الأستاذ هيكل, في مقالته رقم5 مع أحداث شرق أوروبا, فقد أعتبر أن الثورة الشعبية المجرية التي قادها رئيس الوزراء والزعيم الشيوعي إيمري ناجي عام1956 ضد الحكم السوفيتي لبلاده, هي نوع من الأساليب الساخنة التي استخدمتها الولاياتالمتحدة, لكي تنقل المواجهة مع موسكو إلي قلب معسكرها, ثم يضيف إن السوفيت تعلموا درس المجر مجرد التحريض والاثارة, ثم تعلموا درس تشيكوسلوفاكيا1968 الإثارة بقيادة قوة سياسية محلية هي الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي تحت قيادة أليكساندردوبتشيك ثم يتحدث عما كان يجري في بولندا فيقول انه( آخر تجاربهم) والهم هي الأمريكيون ويتطرق إلي أن لديه وثيقة تكشف حصول الزعيم العمالي الشاب ليخ فاونسا علي12 مليون دولار لمصلحة نقابة تضامن الوليدة محولة إليه بأمر الفاتيكان البابا بولندي وهو يوحنا بولس الثاني عبر بنك إيطالي. هكذا يتعامل الاستاذ هيكل باستخفاف مع تحولات سياسية غيرت خريطة العالم وإلي الأبد وتلقي علي دروسه عن التاريخ وتطوراته بظلال كثيفة من الشك حول مدي عمق اهتمام الاستاذ أو احترامه لحركات الشعوب, وتحركات التاريخ, فوفقا لتصوراته عام1982 لا يعدو كل ما جري ويجري أمامه في شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي إلا مجرد عمليات سرية لوكالة المخابرات المركزية لنقل المواجهة بين القطبين إلي داخل القلب السوفيتي. لقد رأي الاستاذ الدبابات السوفيتية في شوارع بودابست56 وفي براج68 ولكنه لم ير أو يشغل باله برؤية الشعب الذي أنتج التحرك المؤدي إلي خروج هذه الدبابات إلي الشوارع.. أيضا لم يلحظ الاستاذ, أن السوفيت أدركوا أن الدبابات لم تعد تصلح في وارسو83 وفضلوا أن يقتنعوا بوجهة نظر الجنرال ياروزيلسكي بأن يصبح حاكما عسكريا عاما لبولندا ويعلن حالة الطوارئ رغم علمهم بأنه في هذه المرة لن تسلم الجرة. وأريد فقط أن أوجه للأستاذ سؤالا واحدا: كيف سترد علينا شعوب شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي إذا قلنا لهم إن صراعهم التاريخي من أجل الحرية والانعتاق من الاستبداد السوفيتي هو مجرد عملية من تدبير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أو أي جهاز مخابرات آخر؟. (2) يبدو أن الاستاذ, دلنا من حيث لم يكن يقصد, علي الطريقة التي وقعت بها نكسة67, وهي, علي حد قوله, في هذه المجموعة من المقالات, مجرد معركة, فقد ظل يتصور أن قواتنا سوف تنتصر, وأنها ستحقق الهدف المطلوب منها, بالرغم من أنه يملك تحت يديه كل المعلومات التي تبين له أن مثل هذا النصر لا يمكن أن يكون أبدا, فالاستاذ, بكل علمه واتصالاته, لم يستطع أن يري, أن الكتلة السوفيتية والعالم كله معها, مقبلة علي أحداث تاريخية بكل معني الكلمة, ورأي أن كل المؤشرات التي أمامه, هي مجرد محاولات, ومناورات سرية, تتوقف بمجرد خروج دبابة من مكمنها, فتضع الأمور في نصابها الصحيح؟! وفي حالة الاستاذ علي الأخص, كانت هذه الرؤية مهمة, فاختفاء الاتحاد السوفيتي من الوجود, يعني اختفاء الطرف الذي يعتمد عليه عرب الصمود والتصدي, وأنصار القومية العربية, وأنصار الحرب ضد إسرائيل لآخر مواطن مصري. وبالرغم من الأهمية الفائقة لهذا الاحتمال, فإنه آثر ألا يراه, وأن يري فقط ما يخدم أهدافه المباشرة, وهي أنه إذا كانت الأعمال الصغيرة للولايات المتحدة في المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا لم ولن تنجح, فإنها نجحت في مصر, لماذا؟ لأن الرئيس الراحل أنور السادات رفض أن يستنير, ويستضيء, ويهتدي بعلم ومعرفة ومعلومات الأستاذ هيكل, في حين أنه أستجاب لإغراءات الأمريكيين والإسرائيليين ووقع في الفخ, وبالطبع فإنه يجب أن يدفع الثمن, وسوف يدفعه علي صفحات التاريخ, خاصة إذا كان هذا التاريخ من تأليف الاستاذ. المذهل في القصة, أن صواعق التاريخ ونيرانه, أنصفت الرئيس السادات وهو في قبره, في حين أن الاستاذ وجد نفسه في الجانب الخاطئ من الرهان التاريخي. مشهد واحد فقط, أتمني للاستاذ أن يستعيده من الذاكرة, أو من شرائط الفيديو, أو من الوثائق الضخمة والهائلة, الموجودة لديه, مشهد اجتياح الآلاف لسور برلين. أسأل الأستاذ سؤالا واحدا: هل تلك الأيام العاصفة والتاريخية بحق من شهر نوفمبر1989 وما بعدها, يستطيع أن يصنعها أي جهاز مخابرات في العالم.. هل يمكن أن يصنعها أحد إلا الشعوب الراغبة في التحرر والانعتاق؟ وكيف لم ترها؟ وكيف حال رهانك الآن علي الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو في مقابل رهان السادات؟ (3) يقول الاستاذ: إن الذي كسر أو هزم حركة القومية العربية الظافرة هو السادات عن طريق توقيع اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, فهل هذا الكلام صحيح؟ إذن فمؤدي هذا الكلام, أن كارثة يونيو1967 لم تكن هي الضربة القاضية التي أجهزت علي هذه القومية العربية: بعد أن أصيبت في مقتل بانقلاب حزب البعث السوري علي دولة الوحدة مع مصر في28 سبتمبر1961, والواقع والحقيقة التي يعرفها أي قارئ لتاريخ المنطقة أن يونيو67 لم يكن مجرد هزيمة في معركة بل هو النهاية الفعلية لعهد جمال عبدالناصر. وإذا كان الرئيس عبدالناصر, قد ظل علي قيد الحياة حتي28 سبتمبر1970, فإن الواقع الفعلي أنه مات في ذلك اليوم الأغبر من يونيو67. وهكذا فإن تحولا تاريخيا ضخما من نوع قرار السادات بزيارة القدس, لايري فيه الاستاذ إلا أنه مجرد غواية أو فخ أو لعبة ذكاء.. لم يحاول الاستاذ أن يمد بصره إلي الأمام ليري إن كان السادات في حركته هذه يعبر عن قوي اجتماعية, ليس فقط في مصر ولكن علي امتداد المنطقة العربية تريد أن تنعتق من أسر رؤية بالية وعتيقة وغير مناسبة لاوضاع العالم المتجددة لادارة الصراع مع إسرائيل وأنه يقدم بدلا من ذلك رؤية جديدة لكيفية إدارة هذا الصراع.. وقد يكفي السادات أن كل العرب الذين اتهموه بالخيانة والغدر يحاولون الآن السير في طريقه ولكن يبدو أن الفرصة ضاعت. عن صحيفة الاهرام المصرية 3/2/2008