اليسار العالمي في أزمة ..يكفي أن تقرأ كتاب تشومسكي و جيلبير أشقر المعنون ((السلطان الخطير " السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط " )) حتى تخرج بهذا الانطباع . فهذان الكاتبان اللذان يعدان من أهم رموز اليسار العالمي الناقد للإمبريالية و الداعي إلى بناء عالم متحرر من علاقات النهب ، يناقشان كل المشاكل الكونية بجدية ، فيغوصان بعمق المشاكل و يطرحان رؤية جذرية بديلة ، حيث لا يتردد تشومسكي عند مناقشته الإرهاب بالإشارة إلى أن تعريف الإرهاب المعتمد في بريطانيا حتى اليوم ،و هو : "الإستخدام المدروس للعنف ، أو التهديد بالعنف لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو ايديولوجية في طبيعتها ... من خلال الترهيب و الإكراه و بث الخوف " يُجرّم الولاياتالمتحدة كدولة إرهابية بامتياز .
و أما الرد على الإرهاب فيتفق الباحثان على أن ذلك يكون بمعالجة أسبابه ، فيُركز تشومسكي على وقف العدوان الغربي على البلدان التي ينطلق منها الإرهاب ، أما أشقر فيشير إلى أن الليبرالية الاقتصادية هي التي تنتج الإرهاب لأن معاناة الناس قد زادت و زاد معها القلق الاجتماعي بسبب انهيار شبكات الأمان .
و كذلك نلاحظ نفس العمق و الجدية عندما يناقشان مشكلة الأصولية و الديمقراطية . فيستنتج تشومسكي أن الأصولية الإسلامية نجمت عن الفراغ الذي خلفه الغرب بعد أن حطم القومية العربية ، و كذلك بعد أن حطم القومية الإيرانية بقيادة مصدق . كما يجزم أن أكبر دولة أصولية في العالم هي الولاياتالمتحدة و جذور ذلك عميقة تعود إلى المستوطنين الأوائل ، لهذا السبب نجد عبارات دارجة هناك مثل "نثق بالله "و " أمة واحدة يرعاها الله " ، و قد تم تعبئة الأصوليين كقوة سياسية منذ ربع قرن بسبب السياسات الليبرالية ، حيث تنخفض الأجور ، و يمر الاقتصاد بركود ، و تتراجع المداخيل الشرائية للأسر ، و تزداد ساعات العمل ، و تنخفض المنافع الاجتماعية .
و قد عولجت تلك الاضطرابات بتعبئة القطاعات المسيحية الأصولية و تحويلها إلى قوة سياسية فعالة لتحويل بؤرة التركيز من القضايا السابقة نحو قضايا مثل المثليين و حق الإجهاض ...الخ . و قد بدأ هذا التحول مع إدارة كارتر . و يربط أشقر ذلك بالأزمة الاقتصادية ، التي بدأت منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، و انتشار " فقدان النظم " و فقدان الناس لنقاط استدلال مرجعية ، فمال الناس للبحث عن ملاذ في رموز الهوية .
و في مسألة الديمقراطية يتفق الباحثان حول نفاق الولاياتالمتحدة و كذب خطابها لأنها لا تريد الديمقراطية بل السيطرة ، و ما يعنيها من الديمقراطية أن لا تصل قوى معادية للغرب ، فهي تقول ضمناً أنك إذا كنت ديمقراطيا حقيقياً عليك أن تكون عميلاً للغرب ، فدعمت -و ما زالت- أنظمة دكتاتورية ترعى مصالح الغرب كما أنها ساندت انقلابا عسكرياً في فنزويلا ضد رئيس منتخب ديمقراطيا لأنه يرعى مصالح شعبه ، هو تشافيز . كل ما سبق جيد و يطرح رؤى بديلة ، لكن الأزمة الفكرية التي يعاني منها اليسار العالمي و تجعله غير قادر على طرح البديل الحقيقي تظهر بوضوح عندما يصل النقاش إلى قضايا تخص الصراع العربي الصهيوني و الاحتلال الأمريكي للعراق ، فرغم أن الكاتبان يدركان أهمية المنطقة في إدامة ،أو انهيار النظام العالمي بحكم موقعها الجغرافي و بحكم وجود النفط الذي يشير تشومسكي إلى أن قيمته تنبع ، بالإضافة إلى أهميته الاقتصادية ، من أنه ذو قيمة إستراتيجية ، فمن يسيطر على قرار النفط يسيطر على العالم .
ففي عام 1970 كانت الولاياتالمتحدة تمتلك نفطها الخاص و مع ذلك سعت للسيطرة على نفط الشرق الأوسط رغم عدم حاجتها له ،و ذلك لأهميته الإستراتيجية تجاه أعدائها و حلفائها . و يُذكّر تشومسكي أن أحد أهداف مشروع مارشال كان إعادة بناء الصناعة في أوربا بحيث تعمل على النفط بدل الفحم الحجري ، الذي كان موجوداً بكثرة في أوربا ، من أجل أن تصير أوربا معتمدة على نفط الشرق الأوسط ، الذي تسيطر عليه الولاياتالمتحدة ، و بالتالي تضمن الولاياتالمتحدة خضوع أوربا . و بيّن تشومسكي أن حرب العراق حرب مصير بالنسبة للسيطرة الأمريكية على المنطقة ،و على العالم ،و أن لا مجال لمقارنتها بحرب فيتنام . يقول : (( .... المقارنات بين فيتنام و العراق لا معنى لها،في حالة فيتنام كان من الممكن أن تبلغ الولاياتالمتحدة أهدافها الرئيسية من الحرب بتدمير الهند الصينية . لكنك لا تستطيع تدمير العراق ، لا يمكن تخيل ذلك ، إنها ثمينة جداً و ينبغي لك أن تسيطر عليها . الانسحاب من فيتنام كان يعني قليلاً من الإحراج لواشنطن لمدة عامين ، ليس إلا . أما الانسحاب من العراق فسيعني كارثة محققة للسيطرة الأمريكية على العالم )) و هذا الكلام الجذري و الفهم العميق للمشكلة يتطلب أيضاً اقتراح حلول جذرية لا تقل عن الانسحاب الفوري لقوات الاحتلال ، و الدعوة لمقاومته بكل الوسائل : عسكرية ، و مدنية. لكنك ستصاب بخيبة أمل إذ لن تجد شيئاً من هذا ،ففجأة يهبط مستوى النقاش و كأن شخصين آخرين قد حلا مكان جيلبير أشقر و نعوم تشومسكي ، فينحدر مستوى نقاشهما ليغرقا بتفصيلات ثانوية لا أهمية لها، و كأنما يفعلان ذلك عمداً كي يهربا من اقتراح حلول جدية، فلا يذكرا المقاومة للاحتلال الأمريكي في العراق ،بل يلخصان الوضع على أنه عنف أعمى عبثي لا هدف له. و يتناول جيلبير أشقر -المتحدث الرئيسي عن العراق في هذا الكتاب - واقع العراق من خلال ما أرساه الاحتلال من مؤسسات فيستخدم نفس المفردات ، و يتعامل مع التشكيلات التي أوجدها الاحتلال كتشكيلات حقيقية و نهائية ، فيفكر بحلول من داخلها ، أي من داخل البنية التي خلقها المحتل، نلاحظ ذلك عبر إقراره بتقسيمات الاحتلال للعراقيين إلى سنة و شيعة و أكراد ، و عبر اعتباره العملية السياسية عملية شرعية ،و كذلك موقفه المساند للدستور الذي أرساه الاحتلال ،فيسهب بالحديث عن طبيعة القوى المنخرطة بالعملية السياسية و يعطيها بعداً مجتمعياً و هي ليست كذلك ، و يصبح السيد السيستاني النموذج الأمثل للمقاومة المدنية ، و بصراحة احترنا بهؤلاء اليساريين ، فهم يعارضون المقاومة التي يقوم بها متدينون بحجة أصوليتها ، ثم يؤيدا السيستاني الذي يبز الإسلاميين المقاتلين بأصوليتهم و ينقص عنهم بمهادنته لمحتلي بلده ! و يوم الخميس 13 -11 نشرت القدس العربي محاضرة الكاتب اليهودي التقدمي المعادي للصهيونية نورمان فينكلشتين الممنوع من دخول دولة " الكيان الصهيوني "، و صاحب الكتاب الشهير 'صناعة الهولوكوست' الذي اضطرته مواقفه المعادية لسياسات الكيان الصهيوني المتطرفة إلى خسارة منصبه في جامعة دي بول الامريكية ، وهو يتقدم خطوة على تشومسكي و أشقر في فهم الحقوق العربية و الإقرار بها ، فهو يُقر بحقوق الشعب الفلسطيني بالمقاومة و بالطريقة التي يرغبها سواء كانت عنفية أم سلمية على طريقة غاندي ، و يقر أن العراق يخضع لاستعمار شبيه باستعمار بريطانيا للهند . لكنه يقع في الخطأ القاتل هو الآخر إذ يشبه السيستاني بغاندي ، مع أن غاندي لم يهادن و لو للحظة محتلي بلده ، و مع أن الوضع في العراق متقدم عنه في الهند من ناحية مقاومة المحتل فقد كانت الهند مستسلمة لاحتلال طويل و جاء غاندي ليوقظها أما العراق فإن الناس لم تستسلم للاحتلال قط ، و قاومته و ما زالت بكل الوسائل ،و يلعب السيد السيستاني دور المهدأ للجماهير الغاضبة ، و لهذا يقيّمه أطراف العملية السياسية عالياً و تحتفظ له وسائل الإعلام العالمية بمكانة مميزة ،و يبدو أنها تسربت إلى فكر اليسار العالمي . يتحدث أشقر بإسهاب عن صراعات القوى المنخرطة بالعملية السياسية - و أغلبها جاء مع الدبابات الأمريكية - و كأنها صراعات مجتمعية، كما قلنا ، و يغيب ، أو يكاد ، القوتان الرئيستان في عراق اليوم و هما الاحتلال و المقاومة ، فلا ذكر لهما ،و كأن العملية السياسية تجري بغياب الاحتلال و الرد الطبيعي عليه و هو المقاومة . كما أن حدثاً هائلاً كمعركة الفلوجة الأولى التي انتصر بها المقاومون على الاحتلال و دفعت مسار الولاياتالمتحدة الكوني نحو الهبوط لا نجد أي ذكر لها لا من قريب و لا من بعيد في حديثهما.
و إذا تحدثا عن المستنقع العراقي الذي تغرق به الولاياتالمتحدة اليوم ، فحديثهما يقتصر على الأخطاء التي ارتكبها الأمريكي ، مثل حل الجيش و تدمير بنية الدولة ، فيبدو ما تعاني منه الولاياتالمتحدة في العراق كمن أضاع طريقه في الغابة ،أو كمن تعثر بحجر في طريقه لأنه لم يكن يحمل فانوساً ، و يتجاهلان أن قوى المقاومة هي التي صنعت المستنقع فهو ليس مستنقعاً طبيعياً أو بفعل خطأ بشري ، فهما يفترضان ضمناً أن الإنسان العراقي سلبي بشكل تام ينتظر قدوم الأمريكي ليشكله كما شاء ، و لو أن الأمريكي أحسن التصرف و شكّل المجتمع العراقي بدون أخطاء لسارت الأمور على ما يرام ، لكن الكارثة حلت بسبب هذه الأخطاء . هل تختلف هذه المقاربة بشيء عن مقاربة صحفيي فوكس نيوز أوcnn !
و ثانية يتعاظم هذا الخلل عند المفكرين أثناء مناقشتهما للقضية الفلسطينية ، فهما يعتبران وثيقة جنيف التي رفضتها كل القوى الفلسطينية الحية وثيقة رائعة ، و كل الحلول التي يقترحانها هي من نوع الحلول السياسية الرديئة التي تفرضها اللجنة الرباعية أو من نوع تلك الواردة في خارطة الطريق . أي ينتقلان ببساطة شديدة من كونهما مفكرين كبيرين إلى مجرد سياسيين رديئين يبحثان عن إدارة يومية للصراع ،حتى أن تشومسكي يكاد ينكر حق العودة و يعتبر أن مجرد إجراء استفتاء بين فلسطيني الشتات على أي اتفاق مستقبلي هو وصفة للحرب ! كما أن ذلك يظهر في موقف أشقر من الحرب الاسرائيلية على لبنان فرغم إدانته للسياسة الإسرائيلية لا يتردد بوصف أسر الجنديين الإسرائيليين من قبل حزب الله بالعمل المغامر .
نحن لا نتوقع من الكاتبان أن يتبنيا مواقفنا السياسية . لكن المفجع في الأمر أنهما يتوقفان عن تحليل طبيعة اسرائيل كمخلب قط أمريكي ،أو كحاملة طائرات و قاعدة عدوان على العرب ( كما ذكرا في نفس الكتاب ) ،فيتعاملان مع هذا الكيان العنصري الوظيفي على أنه كيان طبيعي يبحث عن حلول طبيعية .إن رؤيتهما تكاد تقارب رؤية أي ناشط في الحزب الديمقراطي لا أكثر .
هنا يكمن مأزق اليسار العالمي فهو يتحدث بشكل جيد و معقول عن كل قضايا الكون ، لكن عندما يصل إلى لب الموضوع و هو منطقتنا و إلى قضايانا العربية ، التي هي لب الصراع الكوني ،فعلى أرضنا سيحسم هذا الصراع بين قوى البربرية و القوى التي تريد بناء حضارة جديدة أكثر عدالة و إنسانية،نراه يصاب بالعمى و يتوقف عن التفكير بشكل جيد ، فيتخلى عن مقاربته الراديكالية للمشاكل ويتحول إلى ببغاء يردد الحلول التي تروج لها القوى المسيطرة على العالم . و بالتالي فهو لن يستطيع أن يطرح بديلاً حقيقياً للنظام القائم . و أكاد أقول : (( قل لي ماذا تقترح من حلول للعراق و فلسطين أقل لك من أنت )).