مجتمع المعرفة العربى بين سياسة اللاتفاعل الثقافى السلبية وخطر إنقراض اللغة
* محمد عبد القادر
إكتسبت الدعوة داخل الدول العربية الى اقامة مجتمع المعرفة أهمية خاصة وبالغة فى ذات الوقت، خاصة فى ظل انتشار ظاهرة العولمة بشكلها الراهن كوسيلة لتكريس هيمنة الأقوى على مقدرات العالم فى جميع المجالات واحتكار الغرب للمعرفة، التى تحولت من سلعة عامة الى سلعة شديدة الخصوصية. وهذا ما جعل فرص البلدان النامية عموما والبلدان العربية خاصة فى اكتساب المعرفة مهددة بالخطر ان لم تكن قد أصبحت معدومة. فتحول المجتمعات العربية الى مجتمعات معرفية تقوم على انتاج ونشروتوزيع المعلومات، واستثمارها فى كافة مجالات الحياة ليس بالأمر الهين، بل هو أمرا أصبح أشبه بالمعركة التى أصبح لزاما عليها خوضها من أجل تحطيم جدار احتكار الغرب للمعرفة.. لسهولة عبور شعوبها اليها بما يمكنهم من توسيع خياراتهم وتنمية قدراتهم..
ولكى تنعم تلك الدول بمستقبل أفضل. وذلك ما يدعو للتساؤل هل للحكومات العربية حقيقة القدرة على خوض تلك المعركة؟، بل أن الأهم هو هل هى قادرة على تحقيق النصر فيها أم..؟. الثقافة الأم تواجه منظومة إكتساب المعرفة فى الوطن العربى العديد من التحديات الصعبة، الناتجة عن تضافر العديد من العوامل والأسباب، والتى تفرض تحقيق نقلة نوعية فى العديد من الأوضاع بداخله وخاصة أوضاعه الثقافية. فقد عبرت الثقافة العربية دوما وعبر تجربتها التاريخية عن نموذج فريد من حيث قدرتها على الإنفتاح وتجاوز الذات. فتقبلت خبرات الأمم الأخرى ودمجتها فى معارفها على الرغم من سمة الاختلاف والتباين التى تميزها عن تلك الأمم وتجاربها.
تؤكد ذلك الخبرتان التاريخيتان اللتان مرت بهما، والتى ترجع الأولى منهما إلى عصر التدوين العلمى والإلتقاء بالحضارة اليونانية وعلومها بل وطلب هذه العلوم وإستيرادها- وبخاصة فى القرنين الثالث والرابع للهجرة / التاسع والعاشر الميلادى. ثم كانت الخبرة الثانية الكبرى الناتجة عن التقاء العالم العربى الحديث بالمدنية الغربية، والانفتاح على العلوم والآداب وجملة وجوه الثقافة الغربية منذ مطلع القرن التاسع عشر. وكانت حصيلة ذلك تجددا وتجديدا فى التراث الثقافى العربى المنحدر من الماضى، المقبل على المستقبل، من حيث الآخذ من أسباب الحداثة والتحديث، والإنتاج الغنى فى جميع قطاعات المعرفة والفنون والآداب والتقنيات.
غيرأن الثقافة العربية، مثلها فى ذلك مثل غيرها من الثقافات تجد نفسها الان، فى مواجهة مشكلات الوحدة الثقافية، ومشكلة الذات والآخر ومشكلة"الشخصية الحضارية"، وما ماثل هذا كله من مصطلحات أو مفاهيم تثير المخاوف والمخاطر فى نفوس أبنائها.
التى منها الخوف من إنقراض اللغة أو الثقافة، أو تضاؤل الهوية أو تبددها، وتلك هى ما شكلت تحديات أصبحت تفرض نفسها على الفكرالعربى والثقافة العربية. وذلك ما دعى الكثير للقول إنه لا سبيل أمام الثقافة العربية إلا أن تخوض من جديد هذه التجربة الكونية الجديدة. فهى لا تستطيع الانغلاق على ذاتها والوقوف على ما حققته عبر رحلتها التاريخية فى الماضى فحسب فى عالم تكتسح قواه كل أركان الكون وتنتج شتى أشكال المعرفة والسلوك والحياة والمبدعات. وهو ما تدعو إليه بعض التيارات التى تحبذ سياسة الرفض والتجاهل والإنغلاق والعداء لجملة ما تحمله الثقافة الكونية من قيم وأفكار، وهم لا يعلمون أن سياسة "الاتفاعل"السلبية تلك لن تقضى بنا إلا إلى ضعف البنى الثقافية العربية وتضاؤلها، لا تقويتها. يضاف إلى ذلك أن للثقافة الكونية وجوهها المعرفية والعلمية والتقنية التى لايمكن إغفالها وتجاهلها.
والتفاعل مع وجوه هذه الثقافة، تمثلا وإستيعابا ومراجعا ونقدا وفحصا، لايمكن أن يكون سببا حقيقيا من أسباب الإنتاج المعرفى والإبداعى. وهذا أمر ملحوظ فى جملة قطاعات الثقافة العربية المعاصرة. فإن جهود التنمية الثقافية والتطور الإبداعى فى شتى حقول هذه الثقافة تشير إلى الدور الذى تؤديه عملية التفاعل الثقافى الكونى والإنسانى.
وهى عملية تجرى رغم كل المعوقات المحلية والعوائق والصعوبات الخارجية والسياسات الدولية التى تنزع إلى الهيمنة الشاملة، أو التى تختار طريق الصدام والصراع بدلا من طريق التفاهم والحوار والتعاون والتداول. ويفيد تحليل مقومات الثقافة العربية أن جوهرها الممتد عبر ألفيات ثلاث، يمكن أن يحمل إقامة مجتمع المعرفة فى الألفية الأولى وبدايات الألفية الثانية.
بل إن متانة الثقافة العربية وغناها يمكن أن يعززا قدرة المجتمعات العربية فى التعامل مع تيارات العولمة الجارفة. خطر الإنقراض وفى سياق الثقافة العربية، يعتبر التراث الفكرى مكونا أساسيا منها، واللغة الحامل الأداتى لها. والدين المنظومة الإعتقادية الرئيسية الشاملة التى توجه حياة هذه الثقافة العربية. أما القيم (الأخلاقية والإجتماعية والسياسية) فهى التى تحكم الفعل وتوجهه فى المنظومة العامة لها.
ويعتبر دور الغة فى مجتمع المعرفة دورا جوهرى. لأنها أساس رئيسى من أسس الثقافة، ولأن الثقافة باتت هى المحور الذى تدور فى فلكه عملية التنمية. واللغة محورية فى منظومة الثقافة لإرتباطها بجملة مكوناتها من فكر وإبداع وتربية وإعلام وتراث وقيم ومعتقدات. لكن اللغة العربية تواجه اليوم، وفى ظل الدعوة إلى مجتمع المعرفة مجتمع المعرفة تحديات قاسية وازمة حقيقية: تعليما، نحوا، معجما، وإستخداما وتوثيقا وإبداعا ونقدا. وإلى مظاهر الأزمة تضاف القضايا التى تثيرها تقنيات المعلومات، وهى القضايا المتعلقة بمعالجة اللغة أليا بواسطة الحاسب الآلى.
ويضرب الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين مثلا حيا علي أهمية اللغة بالنسبة للشعوب والحضارات فيقول:"لقد انكمشت إنجلترا إلي جزيرتها وإلي خمسة وخمسين مليونا هم كل سكانها الآن سنة1982 ولكن أهم مابقي من الامبراطورية البريطانية هو أن اللغة الانجليزية صارت هي اللغة الأساسية لشعوب غير انجليزية علي الاطلاق مثل الهند، حيث يفهم الهنود كلهم لغة واحدة مشتركة هي اللغة الانجليزية، وكذلك نصف أفريقيا السوداء الذي يتكلم كله بالانجليزية، وبالتالي بقيت المدارس الانجليزية، والصحف الانجليزية هي الأقوي تأثيرا في العالم، وإذاعة بي. بي. سي هي أكثر مايرهف له العالم سمعه، والآثار السياسية والاقتصادية والحضارية لهذا كله لا تحتاج إلي بيان، وذلك علي عكس لغة مثل اللغة الألمانية التي تساوي الانجليزية كلغة حضارة وتتفوق عليها كلغة فلسفة، فاللغة الألمانية ليس لها وجود أو تأثير مثلما هو الحال مع الانجليزية". وتنطوى علاقة اللغة العربية بنقل المعرفة واستيعابها على قضايا عدة تتقدمها قضيتان محوريتان شديدتا الترابط هما: تعريب التعليم الجامعى، وتعليم اللغة العربية.
فقضية تعريب التعليم الجامعى باتت شرطا أساسيا لتنمية أدوات التفكير وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية، فضلا عن إستيعاب المعرفة المتسارعة المتجددة. ومن هنا فإن عدم تعريب العلوم يمثل عقبة فى طريق إقامة جسور التواصل بين التخصصات العلمية المختلفة. ذلك أن اللغة هى رابطة العقد فى منظومة المعرفة الإنسانية. إلا أن تعزيز منظومة المعرفة يتطلب أيضا أن تتوازى جهود التعريب مع زيادة الجهد المبذول فى تدريس اللغات الأجنبية للجميع. أما تعليم اللغة العربية فيشكو هو أيضا من أزمة حادة فى محتوى المادة التعليمية وفى مناهج التدريس على حد سواء. ولعل من أبرز أعراض هذه الأزمة إهمال الجانب الوظيفى فى إستخدام اللغة وعدم تنمية المهارات اللغوية فى الحياة العلمية، والإقتصار على جانب الكتابة دون جانب القراءة فى تنمية القدرات الإبداعية. ولا تنفصل مشكلة تعليم اللغة العربية عن وضع اللغة العربية الفصحى على وجه العموم.
وواقع هذه اللغة أنها اليوم ليست"لغة الكلام"، وإنما هى لغة القراءة والكتابة ولغة المثقفين والأكاديميين الذين يقدمون حصيلة معارفهم أو آرائهم فى المحاضرات. وذلك يعنى أن اللغة العربية الفصحى ليست لغة التعبير الحار العفوى والإنفعالات والمشاعر والتخاطب اليومى وإكتشاف الذات ولامحيط. على ضوء هذا أصبح من الضرورى العمل بجد على تقوية الدروع اللغوية للعربية وتعزيز الخصائص الذاتية والعلمية التى تؤكد سمتها العالمية وقدرتها على تمثل التطورات التكنولوجية والمعلوماتية، فضلا عن توطيد العلاقة بينها وبين اللغات العالمية، وتوفير الشروط الضرورية والإمكانات المعنوية والإقتصادية والفنية المعززة للثقافة العربية ولمنتجاتها الإبداعية.
وفى سبيل تحقيق النصر تطرح العديد من الرؤى لإقامة مجتمع المعرفة فى البلدان العربية والتى يعد من اهم ركائزها أو محاورها:
- النهوض باللغة العربية من خلال إطلاق نشاط بحثى ومعلوماتى جاد ، يعمل على تعريب المصطلحات العلمية ووضع معاجم وظيفية متخصصة وأخرى لرصد المفردات المشتركة ، ولابد أن يتزامن مع هذا الجهد عمل دؤوب لتيسير اكتساب اللغة العربية السليمة من خلال مختلف قنوات التعلم النظامية وغير النظامية ، وحركة تأليف مبتكر وإبداعى على مستوى الأعمار الولى .
- إستحضار إضاءات التراث المعرفى العربى ، وإدماجها فى لحمة النموذج المعرفى العربى بشكل يتجاوز التفاخر الأجوف إلى التمثل المتأصل لأسباب ازدهار المعرفة العربية فى العقول والبنى المؤسسية العربية .
- إثراء التنوع الثقافى داخل الأمة ودعمه والإحتفاء به من خلال حماية كل بلد عربى لجميع الثقافات الفرعية التى يحملها أبناؤه ، بل ودعم فرص ازدهارها وتلاحقها بعضها مع بعض ، كما يتطلب ذلك ألتزام القيادات السياسية والأخلاقية بالدعوة إلى التعددية والتسامح .
- الإنفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى من خلال حفز التعريب والترجمة إلى اللغات الأخرى ، والإغتراف الذكى من الدوائر الحضارية غير العربية ، وتعظيم الإستفادة من المنظمات الإقليمية والدولية ، العمل على إصلاح النظام العالمى من خلال تمتين التعاون العربى .
ومن ذلك نخلص إلى أن المعرفة تكاد تكون هى الفريضة الغائبة فى البلدان العربية، والتى تحول دون تطبيقها بعض البنى الوضعية والتى يجب وأن تلعب الحكومات والشعوب دورا فى إزالتها حت تتبوأ أمتهم المكانة التى تستحق فى العالم إبان ألفية المعرفة.