فتوى "ميكي ماوس" .. ونظرية المؤامرة !!! * هاني ضوَّه لم يكد يمضي أسبوع على فتوى رئيس مجلس القضاء الأعلى السعودي الشيخ صالح اللحيدان التي تجيز قتل ملاك القنوات الفضائية "قضاءً"، وأيضاً فتوى الشيخ عبدالله الجبرين، التي قال فيها أنه يجب عقاب الصحفيين وأصحاب الأقلام الذين انتقدوا فتوى اللحيدان بفصلهم من أعمالهم، وسجنهم سجناً طويلاً، وجلدهم، لكي يرتدعوا، حتى أطل علينا شيخ أخر بإهدار دم جديد .. إنه دم "ميكي ماوس"، لا تتعجبوا .. نعم "ميكي ماوس" الفأر الشهير بطل أفلام كارتون والت ديزني.
الأسبوع الماضي كنت أتصفح كعادتي بعض الصحف الأجنبية والعربية لمتابعة الأحداث، وأثناء قراءتي لصحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية هالني ما وجدت .. خبر كتب بشكل ساخر يتحدث عن فتوى للشيخ محمد المنجّد بعنوان: "Mickey Mouse must die, says Saudi Arabian cleric" .. أو "ميكي ماوس يجب أن يقتل .. فتوى لرجل دين سعودي". في البداية اعتبرتها إحدى تهويلات الغرب في تناولهم لأمور تخص ديننا الإسلامي .. خاصة وأن ما حواه الخبر من أقوال منسوبة للشيخ محمد المنجد بالفعل يثير الضحك والسخرية .. حتى حدثني أحد أصدقائي عن الفتوى، ومن ثم وجدت أن غالبية الصحف العربية والفضائيات قد تناولتها كحدث غريب.
جاءت تلك الفتوى العجيبة الكوميدية في حديث للشيخ المنجد بقناة "المجد" السعودية شن فيه هجوماً عنيفاً على الفئران داعياً إلى قتلها في الحل والحرم وأكد بأنها من جنود إبليس .. لم تقتصر الفتوى على قتل الفئران بل حذر فيها أيضاً الأطفال من الإعجاب بشخصيات الفئران التي اشتهرت عبر الأفلام الكرتونية مثل "ميكي ماوس" والفأر "جيري" صديق القط "توم" لأن الفأر حسب الشيخ المنجد يسيره الشيطان. وأضاف المنجد في فتواه: "الفئران تلك الكائنات الممقوتة صارت عند الأطفال حاجة عظيمة ومحبوبة .. يعني "ميكي ماوس" هذا شخصية عظيمة مع أن "ميكي ماوس" هذا شرعاً يُقتل في الحل والحرم" .. ليس هذا فقط بل اعتبر الشيخ أن شخصيات الفئران ك "ميكي ماوس" -آخر ضحايا الفتاوى- قد وجهها الغرب لإفساد عقول ومفاهيم أطفالنا وذلك ضمن حملتهم لتدمير الإسلام. العجيب في الأمر أن المنجد كان دبلوماسياً سابقاً بالسفارة السعودية في الولاياتالمتحدةالأمريكية .. بلد ديزني لاند .. ومن المعروف أن طريقة اختيار عقلية الموظفين الدبلوماسيين يجب أن تكون بغاية الحنكة والدبلوماسية والانفتاح –طبعا مع التقيد بالتقاليد والشرع- وليس شخصاً تزعجه الألعاب الأولمبية وحتى "ميكي ماوس" اتضح أنه شخصية وجدت لمحاربة الإسلام .. وكأن "ميكي ماوس" قد أُرسل لأطفال المسلمين دون أطفال الغرب والشرق وآسيا وغيرها من البلدان. وهذا يجعلنا نتساءل هل يرسخ الإسلام مفهوم التآمر حتى درجة المرض النفسي؟!!!، والشيخ المنجد يتساءل: "ما هي نظرة أطفال المسلمين للفئران بعد ميكي ماوس؟!!!". سؤال جداً عجيب .. فالشيخ يعتقد أن "ميكي ماوس" يحبب الأطفال في الفئران والتي هي ممقوتة شرعاً ويجب قتلها .. لا أقول أن الفأر ليس قذراً أو ممقوت شرعاً فهذا أمر ثابت .. ولكني أتسائل .. هل نحتاج إلى رجل دين يخبرنا بأن الفأر قذر؟! .. أو بمعنى آخر إذا لم يقل الإسلام أن الفئران قذرة وعلم الأطفال هذا هل تتوقعون اليوم أن يصادق أطفالنا الفئران بسبب "ميكي ماوس" ؟!!!، وهل إذا وقع فأراً في طبق أحدهم يكمل أكله من الطبق؟!!. ذكرني هذا بما سمعته يوماً في إذاعة سعودية في الراديو، وكانت المتصلة تقول أن أفلام الكرتون مؤامرة من الكفار موجهة ضد أطفالنا، واستشهدت بفلم كرتون وقامت بتحليله و"تفصيصه" بشكل مضحك ومثير للشفقة في نفس الآن. علينا أن ندرك أمراً هاماً وهو أن الطفل لا يتوقف عند أصل "ميكي ماوس" ولا سيكولوجيته تقف عند نوعه .. علماً بأن الفئران أفضل دوراً وأهمية من البشر أحياناً! .. لكن تأبى الفتاوى العجيبة والكوميدية في نفس الوقت إلا أن يشاهد الأطفال لا شيء ويكونوا لا شيء في النهاية!. لعل هذا يعيد إلى الأذهان الحديث عن "نظرية المؤامرة" .. تلك النظرية التي تقوم -غالباً- على نقيض المعطيات والحقائق والاستنتاج والتحليل المنطقي السليم، فبعض الشيوخ السعوديون يعتقدون أن هناك "عصابة" تتآمر في الخفاء، ولها أيدٍ تمتد كالإخطبوط تدير الأمور من وراء الكواليس .. تلك النظرية إذا سيطرت على العقل تجعله يختلق معطيات وأدلة ضعيفة يجمعها تماماً كلعبة "البازل" يحاول أن يركبها بحيث تتطابق كل قطعة منها مع بعضها، وتندمج حوافها بشكل سليم فتظن أنك قد كونت صورة كاملة واضحة .. لكن إذا رفعت رأسك قليلاً ونظرت إلي ما كونته من بعيد فلا تجد تلك القطع تشكل شكلاً صحيحاً .. بل تجد صورة مشوهة ومشوشة. قد تقولون وبما تفسر الحرب التي يشنها الغرب على الإسلام والعرب .. أنا لا أنكر وجود محاولات وحرب خفية يحاول الغرب أن يشنها علينا كعرب ومسلمين .. لكننا لا نستطيع أن نربط كل شئ بنظرية المؤامرة .. فمثلاً لو حدث واحتلت الولاياتالمتحدة بلاد الإسكيمو لخرج علينا قائلاً يقول أن الهدف من ذلك تدمير الإسلام أو القضاء على العرب .. وبهذه الصورة المبسطة تبدو سخيفة جداً، ولكن من يتبناها ينمقها ويعطيها صبغة شرعية أو علمية، فتتحول من سخيفة - لأنها تحتوي على قدر عالٍ من الغباء - إلى مأساوية، لأن هنالك من يدافع عنها ويؤمن بها وأحياناً يكون من حملة الشهادات أو ذو مكانة دينية كما في فتوى إهدار دم "ميكي ماوس" الكوميدية!!!. للأسف نحن بهذا الفهم واستسلامنا لنظرية المؤامرة نجعل من أنفسنا كياناً هشاً ومجتمعاً ضعيفاً .. نحن جعلنا من نظرية المؤامرة "شماعة" نعلق عليها نكباتنا وتراجعنا وأمراضنا الداخلية ومشاكلنا .. ونعتبر أن كل ما يحدث إنما هو مؤامرة فكرتون الأطفال مؤامرة، تنمية اللغات الأجنبية عند أطفالنا غزو ثقافي مدمر بل لا يجوز تعلم اللغة الإنجليزية كما أفتى الشيخ ابن عثيمين من قبل .. أخذ إيجابيات الغرب انجذاب نحو العدو. يجب أن نعرف جيداً أننا إذا تمسكنا بإسلامنا وعقيدتنا وموروثاتنا الثقافية وعملنا بها لن يكون من السهل أن يؤثر فينا أي غزو خارجي .. والتاريخ يشهد بذلك .. وليس هناك مثالاً أفضل من هولاكو وجنكيز خان وتيمور لنك وغيرهم الذين عاثوا في بلاد المسلمين والعرب الفساد .. وما فعله هولاكو في مكتبات بغداد ليس بخافي .. حيث ألقى من الكتب في نهر دجلة ما جعل مياهه تتلون بلون الحبر .. وجعل دماء العلماء والعوام تسيل جداولاً. وقوات تيمور لنك استطاعت أن تفعل في سوريا عام 1401 أشنع بكثير مما فعله المغول في بغداد .. إذ لم يبق قائماً في سوريا إنسان أو كتاب أو مئذنة .. ونتيجة هذا كله هي أن العالم العربي قد تخلى لقرون كاملة عن أية حركة علمية .. فقد خسر المعين الهائل الذي كانت تقدمه مكتبات بغداد ودمشق بشكل خاص .. لكن بعد قرنين من المآسي والتدمير والحرق والإتلاف عدنا لبعض نهضتنا بعد أن عاد العرب للتمسك بعقيدتهم وموروثاتهم. على الرغم من بشاعة ما فعله المغول وتيمور لنك وغيرهم على مر العصور وسعيهم لتدمير الحضارة العربية والإسلامية لم ترتبط قوتهم مع ذلك بنظرية المؤامرة، لأنهم امتلكوا القوة والتحكم فقط، ولم يمتلكوا شيئ هام ترتكز عليه النظرية هو الموروث القائدي والفكري والتاريخي للأمة العربية والإسلامية. فالأمر كله بأيدينا .. نحن من نسمح لمحاولات الغرب بالتأثير فينا .. ونحن الذين لا نربي أبنائنا على التمسك بهويتهنا العربية .. ونحن الذين نجعل من أطفالنا جبناء يهابون مواجهة الفكر الغربي أو حتى الاقتراب منه.. في النهاية أحب أن أقول أن الشكوك العلمية السليمة مستحبة بل وواجبة أحياناً، فمحقق الشرطة يجب أن يشك في كل شيئ وكل شخص أيضاً، ولكن لا تخوله - شكوكه فقط - بأن يحبس المشكوك فيهم، بل يجب تدعيمها بأدلة علمية مبنية على منهج علمي سليم، لكننا وللأسف نلجأ لنظرية المؤامرة لتسهل علينا الكثير، فتختصر الجهد في تقصي الحقائق وجمع الأدلة والتحليل والاستنتاج. وخاصة إذا كانت نتيجة ذلك أننا مذنبون بصورة أو بأخرى، فنحاول جاهدين إلقاء اللوم على الآخرين وتبرأة أنفسنا. باختصار .. نظرية المؤامرة موجودة في كل عصر وزمان .. وطالما أن المسلمين والعرب بعيدون عن التمسك بموروثاتهم الثقافية والتمسك بإسلامهم الصحيح وعقيدتهم والتأكيد عليها وتثبيتها .. والإستمرار في جعل كيد أعدائهم شماعة يعلقون عليها كل ما يحصل لهم فإنهم مسؤولين عن كل الجرائم التي تحصل في الارض .. في هذه الحالة أستطيع أن أُشبه تلك المؤامرة والذين يحتجون بها بالمريض الذي قد أعياه المرض، ولكنه لا يتناول الدواء مع حاجته الشديدة له، وعندما نسأله لماذا لا تتناول الدواء؟ يقول: أن كل ما يحصل له سببه الجراثيم وهي سبب مرضه .. فمريضنا هذا طالما أنه يجعل الجراثيم سبب مرضه ولا يتناول الدواء فلن يشفى من مرضه هذا بل يمكن أن يموت إذا كان مرضه خطيراً .. والعلاج كما قلت في التمسك بثقافتنا وعقيدنا وموروثاتنا .. أن لا نجعل من نظرية المؤامرة شماعة نعلق عليها مشكلاتنا. ** مصر