الصحافة الحرة أداة الحوار الوطني د. طه عبدالعليم لعل أحد أهم أبعاد المأزق الراهن للصحافة المصرية هو إخفاقها في إدارة حوار وطني جاد وشامل لبناء وفاق وطني في القضايا موضع الإجماع وبلورة خيارات بديلة في القضايا محل الخلاف. وفي دفاعي عن حرية الصحافة, قولا وفعلا, كنت وما زلت أومن بأن الدور الحاسم للصحافة في صنع التقدم لا يتحقق بسباقها في مضمار التحريض والهجاء وإنما عبر نهوضها برسالتها في ميدان التنوير وإدارة الحوار المجتمعي, للتعريف بجميع الرؤي, المتباينة بل والمتعارضة, حول القضايا الراهنة الملحة موضع اهتمام الرأي العام, وتلك المتصلة بالتفكير في مستقبل الأمة. وفي ميدان التنوير يبرز البحث الجاد عن الحقيقة, التي لا يحتكرها أحد, باعتباره القصد من المشاركة النقدية الموضوعية للصحافة في النقاش العام. وأما في مضمار التحريض فيغلب الاندفاع الي تشهير لا يقدم للرأي العام بديلا للسياسات والخيارات محل الاختلاف الطبيعي, وبدون أن يسأل المحرضون أنفسهم: لماذا لا يسلم الشعب قياده لهم فيثور, أو حتي ينتفض؟ وهل يرجع الأمر إلي رفض ما يطرحونه من بدائل ووسائل؟وإنما ينزلق بعضهم الي هجاء الأمة بأسرها! ولا جدال أن المشاركة في الحوار الوطني حق من حقوق المواطنة وواجب يمليه الانتماء والولاء للوطن. وحتي تحقق الصحافة رسالتها التنويرية, عبر مشاركتها في إدارة الحوار الوطني, أعتقد أنه ينبغي التسليم بأن قومية الإعلام الرسمي تفترض أن يكون منبرا لكافة التيارات الفكرية, مهما تعددت الرؤي وتصادمت الانحيازات والاختيارات. ببساطة لأنه في مصر- كما في كل مكان- قد تتقاطع وقد تتعارض المصالح والمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتباينة لأطراف الحوار المجتمعي. لكنه وبنفس القدر يتوجب أن ينطلق أطراف النقاش العام حول المشكلات والتحديات التي تجابه الأمة من التفكير المسئول في المصلحة الوطنية, وأن يكون هاجسهم بجانب البحث الدؤوب عن الحقيقة هو الاجتهاد في تقديم بدائل عملية لحل المشكلة ومجابهة التحدي, فلا تتبدد مكاسب الأمة من حرية التعبير في تيه التحريض والهجاء والشتيمة, الذي تجسده صحافة الإثارة, وتلهبه فضائيات التهييج, وتغذيه مدونات الغضب! وبين خطاب كل شيء علي ما يرام وليس في الإمكان أبدع مما كان, وخطاب أن مصر تنفرد دون سائر بلدان الدنيا بالأزمات وإنكار ما تحقق من تقدم مرئي, يتوه الرأي العام ويعجز عن فهم أسباب المشكلات ومخاطر التحديات التي تجابه الأمة, ومن ثم تصعب قيادة الرأي العام علي طريق التصدي لها وتجاوزها. وتضيع الحقيقة بسبب ولولة وصراخ أصحاب صحافة الإثارة, وتناولها للأزمات والتهديدات باعتبارها وليدة الحاضر ومنقطعة الجذور عن الماضي وعما يجري في العالم والمنطقة من حولنا. وبذات القدر تتبدد الحقيقة نتيجة الزعم بأن المشكلات والتحديات وليدة الماضي وأن الحاضر من خلقها براء, أو هي مجرد نتاج المؤامرة الخارجية والعولمة الظالمة والتدخل في شئوننا الداخلية! وفي تقديري أن ضعف صحافة أحزاب المعارضة قد يمثل أهم أسباب المأزق الراهن الذي يجابه الصحافة في ميدان إدارة الحوار الوطني. أقصد الصحافة التي لا تقدم المعارضة فيها قراءة ذات أحكام مطلقة وأحادية النظرة للأزمات والتهديدات باعتبارها ناجمة عن مجرد: قصور التدين أو هدر الحريات أو عدم العدالة أو فساد الحكم أو طفيلية الرأسمالية, وتتجاهل عواقب تضاعف عدد السكان وإملاءات إدارة العولمة وضغوط البيئة الإقليمية ومتغيرات الواقع المحلي وتعقد عملية بل ومفهوم التقدم! ورغم الهامش الواسع الذي تتمتع به الصحافة من حرية التعبير, فإن حمية النزعة التحريضية تحرم القاريء من مواد تحريرية تقدم قراءة موضوعية تسمح له بمعرفة ما تطرحه صحافة معارضة مسئولة. وبقصور صحافتها تحرم المعارضة نفسها من كسب قطاعات متنامية من الرأي العام, لأنها إما لا تطرح عليه حلولا تقنعه برؤاها البديلة أو تعجز عن حشده مستفيدة من فرص الوصول إليه عبر منابرها الصحفية وخطابها الإعلامي. ودون إنكار ما تتعرض له حركتها من قيود تجسد بقايا عقلية عهد ما قبل التعددية الحزبية, تبدو التيارات السياسية الديمقراطية عازفة عن بناء أحزاب توحدها, فتكتسب الفاعلية المرجوة في المجتمع, وعاجزة عن توفير القدرات المالية والمهنية اللازمة لإطلاق صحافة جماهيرية مؤثرة. وأما مأزق صحافة المعارضة فأراه في واقع أن الليبراليين غائبون ومشتتون, حيث تفرقت السبل بين دعاة الليبرالية اقتصادية في الحزب الوطني ودعاة الليبرالية السياسية في حزب الوفد إضافة إلي دعاة ليبرالية بديلة في حزب الجبهة الديمقراطية! وأن صوت الاشتراكيين مازال شاحبا منذ تبدد في ضجيج سقوط المنظومة الاشتراكية علي الصعيد العالمي, وعجز عن طرح البديل الاشتراكي الديمقراطي لمواجهة الإخفاقات المحتومة للسوق الحرة! وتوزع الناصريون بين حزب معترف به وآخر تحت التأسيس ومستقلين, ومازالوا يعانون عزلة جماهيرية باصرارهم علي استدعاء أشباح الماضي. وكرس الإخوان ببرنامجهم كل المخاوف المشروعة من مخاطر وضع الأمة تحت وصاية الفقهاء والتوجه عمليا نحو دولة دينية! وعلي الجانب الآخر, بقي الحزب الوطني الديمقراطي قاصرا في كسب وقيادة الرأي العام عبر خطاب صحفي وإعلامي يكتسب المصداقية. فبقي في نظر الرأي العام منبرا حكوميا أكثر منه معبرا عن هموم الرأي العام, وبدت بعض رموزه متباينة في مواقفها الفكرية ومصالحها العملية. وقد أطلقت دعوة تطوير الحزب موجة توقعات بعد مؤتمره الثامن عن ارتقائه إلي مستوي من البناء والأداء جدير بحزب يعبر عن تيار الوسط في المجتمع, ويسرع بعملية الإصلاح من أعلي ليجنب البلاد عواقب الانفجار من أسفل. لكن قدرة صحافة وإعلام الحزب علي حشد الرأي العام وراءه عانت من العزوف عن معارضة الحكومة حين تتوجب المعارضة, ولم تنجح في طرح أهداف الحزب البرنامجية وغاياته البعيدة بشكل واضح ومستقيم ومنسجم! ويتجسد مأزق خطاب صحافة وإعلام الحزب في جمعه بين من يدافعون عن الاقتصاد الحر في أكثر صوره تطرفا, ومن يستمسكون بنطاق لتدخل الدولة في الاقتصاد عفي عليه الزمن! ولم يتردد بعض رموز الحزب في الدعوة إلي خصخصة الخدمات العامة للتعليم والصحة والمرافق العامة رغم جوهر برنامجه القائم علي الدفاع عن الاقتصاد المختلط! وفي جمعه بين من يدافع عن حرية الصحافة ومن يريد وأدها, فزايد بعض كتاب الحزب في تأييد أحكام حبس الصحفيين, رغم مبادرة رئيس الحزب بوعده الحكيم بإلغاء الحبس في قضايا النشر, وبغير نقاش موضوعي لمواد قانونية توجب الحبس في قضايا الرأي فرضها الاحتلال وتعوزها دقة الصياغة الضامنة لسلامة الأحكام! ومع اقتراب مؤتمره التاسع, لا بديل أمام الحزب, في ظل تحدي حرية الصحافة, سوي المناقشة الموضوعية النقدية لأسباب قصور خطابه الصحفي والإعلامي في اقناع الرأي العام بمصداقية دفاعه عن قيم التقدم وحقوق المواطنة, التي أقر وثيقتيهما منذ المؤتمر الثامن! إن مشكلات الوطن قد تبدو مستعصية علي الحل حين يغيب التحديد الدقيق لأبعادها, وينزوي التحليل الموضوعي لأسبابها, وتضيع روح المبادرة المسئولة بالحوار حول سبل تجاوزها. وفي دائرة الحوار, البرنامج الذي شرفت بتقديمه طوال أكثر من ثمانية أعوام كان هاجسي كباحث ومحاور ومدير للنقاش: تعريف الرأي العام بالمعلومات الموثقة والكاملة ذات الصلة, وإتاحة الفرصة لأطراف الحوار في التعبير عن رؤاها بحرية, والتقدم من عرض المشكلة بأبعادها وأسبابها إلي تقديم الحلول البديلة, دون إقصاء أو تهميش أي من شركاء الوطن, المتأثرين بالمشكلات والمعنيين بحلها وحتي المسئولين عنها, فيصبح الإعلام جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة! ومن ذات المنطلق, أعاود مع مقالي التالي التفكير في مستقبل تصنيع مصر, وهي قضية ضمن قضايا الحوار الجوهرية الغائبة عن الصحافة والإعلام. عن صحيفة الاهرام المصرية 21/10/2007