نعم هناك روسيا جديدة.. ولكن ضمن حدود! خيرالله خيرالله شيئا فشيئا تؤكد روسيا وجودها علي الخريطة الدولية مستفيدة من عوامل عدة في مقدمها الحنين إلي استعادة ماضيها الامبراطوري الذي يدغدغ مشاعر الشعب الروسي. وفي ضوء أحداث جورجيا، بات يصح التساؤل إلي أين يمكن لروسيا أن تذهب في تأكيد أنها قوة لا يمكن الاستهانة بها علي الصعيدين الاقليمي والعالمي؟ ليس سهلا الاجابة عن هذا السؤال. لكن اللافت أن موسكو سجّلت في الأسابيع الأخيرة نقاطا مهمة علي صعيد استعادة بعض الاعتبار، أو علي الأصح جزء من الهيبة التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفييتي. هناك محاولة روسية واضحة ومكشوفة لتأكيد ان لا نية لديها لأن تكون الاتحاد السوفييتي، أي قوة عظمي قادرة علي ايجاد توازن مع الولاياتالمتحدة علي صعيد الكرة الأرضية كلها. لكن ذلك لا يعني في أي شكل أن روسيا مستعدة للتسامح حيال كل ما يمكن أن يمسها علي نحو مباشر، أي في شأن ما يحدث في أراضي الدول القريبة منها مثل جورجيا وأوكرانيا علي سبيل المثال. نجحت موسكو في ذلك إلي حد كبير، ولكن في حدود معينة تدعو إلي عدم الذهاب بعيدا في المبالغة في شأن عودة الحرب الباردة أو ظهور قطب جديد قادر علي الوقوف في وجه العملاق الأمريكي. لابدّ من التذكير مجددا بأن حجم الاقتصاد الأمريكي هو 12 ألفا و417 بليون دولا في حين أن حجم الاقتصاد الروسي لا يتجاوز سبعمئة وأربعة وستين بليون دولار بفضل ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة. ماذا سيحصل الآن في حال استمرت أسعار النفط في التراجع في ما يعتبر ردا غير مباشر من الولاياتالمتحدة علي الطموحات الروسية. لا شك أن روسيا دولة عاقلة، أقله إلي الآن. ولا شك أيضا أنها تدرك في نهاية المطاف أن ثمة خطوطا لا تستطيع تجاوزها. لذلك وافقت علي جدول زمني، غامض إلي حد ما، للانسحاب من الأراضي الجورجية بعد الزيارة الأخيرة للرئيس نيكولا ساركوزي الذي رافقه وفد أوروبي كان من بين أعضائه مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد خافيير سولانا ورئيس المفوضية خوسيه مانويل باروسو. ارتكب باروسو في موسكو هفوة، تكشف حقيقة السياسة الأوروبية تجاه روسيا ومصالحها، بل حدود هذه السياسة. هل تفسّر هفوة باروسو، التي قد تكون زلة لسان مقصودة، الأسباب التي تدعو روسيا إلي متابعة سياسة بسط نفوذها علي المناطق المحيطة حتي لو كانت بلدانا مستقلة مرشحة للانضمام إلي حلف شمال الأطلسي أو إلي الاتحاد الأوروبي؟ قال باروسو إن هناك استعدادا للاعتراف للقادة الروس بحق الدفاع عن مصالح حاملي الهوية الروسية خارج الأراضي الروسية .. وما أكثر هؤلاء في الجمهوريات التي كانت في الماضي سوفييتية. تحت لافتة الدفاع عن الروس في جورجيا، كان الدخول الروسي اليها وتدمير جيشها. وتحت هذه اللافتة، أعلنت موسكو اعترافها بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وتحت هذه اللافتة، لن يكون بعيدا اليوم الذي ستضطر فيه روسيا، الباحثة باستمرار عن المياه العميقة الآمنة وإلي منافذ بحرية في بحار لا تتجمد مياهها في الشتاء، إلي التركيز علي أوكرانيا. مع إعلان استقلال أوكرانيا، اثر انهيار الاتحاد السوفييتي، خرج ميناء سيباستوبول عن السيطرة المباشرة لروسيا. روسيا في حاجة إلي الميناء الذي يحق لها استخدامه حتي السنة 2017. ماذا بعد ذلك، هل تتخلي روسيا عن هذا الموقع الحيوي المطل علي البحر الأسود في منطقة القرم؟ لا بدّ من التذكير باستمرار أن روسيا احتلت شبه جزيرة القرم في العام 1783 وخاضت حروبا من أجلها ولن يكون سهلا بقاء ميناء سيباستوبول تحت سيطرة الأوكرانيين إلي ما لا نهاية، خصوصا أن أوكرانيا مرشحة للانضمام إلي حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. أكثر من ذلك، أن القرم هدية روسية إلي أوكرانيا في العام 1954 في وقت كان الزعماء السوفييت يعتقدون أن أوكرانيا جمهورية سوفييتية إلي الأبد! تكمن أهمية أحداث جورجيا في أنها كشفت التوجهات الجديدة للسياسة الروسية. كشفت أولا أن في روسيا قيصرا جديدا اسمه فلاديمير بوتين. إنه الرجل الآمر الناهي في موسكو، علي الرغم من أنه رئيس للوزراء وأن رئيس الجمهورية ديمتري ميدفيديف يمتلك بموجب الدستور صلاحيات الرجل الأول في البلد. يعرف بوتين جيدا ماذا يريد. وفي حال كان مطلوبا محاولة التكهن إلي أين سيأخذ روسيا، أمكن القول إن الرجل أثبت إلي الآن أنه يدرك جيدا ما هي التوازنات الدولية. في النهاية، لم تتحرك القوات الروسية في اتجاه جورجيا إلا بعد ارتكاب رئيسها ميخائيل سكاشفيلي أخطاء كبيرة، بما في ذلك الاعتقاد أن أمريكا وأوروبا ستهبان لنجدته. يدرك بوتين أن أحدا لن ينجد ساكاشفيلي سوي بالكلام والمساعدات الإنسانية. ويدرك أن أحدا لن يتصدي فعلا لروسيا في حال اكتفت بالسعي إلي حماية ما تعتبره مجالها الحيوي ولم تذهب إلي المساس بمصالح أساسية لأمريكا وحتي لأوروبا، علي رأسها منابع النفط والأراضي التي تمر بها أنابيب النفط، بما في ذلك جورجيا نفسها. عندئذ، سيكون هناك حديث من نوع آخر، حديث مرتبط بكل أنواع العقوبات وأسعار النفط والاستثمارات الخارجية. نعم هناك روسيا جديدة، ولكن في حدود معينة لا علاقة لها بما كان عليه الاتحاد السوفييتي. وإلي الآن، يبدو بوتين علي رأس الذين استوعبوا المعادلة وفهموها.. فتصرفوا في اطارها. عن صحيفة الراية القطرية 16/9/2008