وضعت حقيبة ملابسي جانبا ، نظرت إليه من خلال نافذة الكشك الخشبي ، وجدته يجلس مرتديا جلبابه الذي ظهر عليه آثار الزمن ، رمقني بنظرة تساؤل من خلال النافذة ، بادرته قائلا : حاجة ساقعة . تحركت أنامله بحركة آلية تجاه صندوق حديدي بجواره ، أخرج منه زجاجة مياه غازية ، فتحها و فتح معها تساؤلات كثيرة داخلي ، نظرت إليه نظرة متفحصة ، بادرته متسائلا : معقول ؟
مش إنت برضه الكابتن ( رفعت الفناجيلي ) ؟ ( نظر إلي نظرة انكسار ، قفزت من عينيه علامات استفهام تملأ الكون من حولي ، ابتسم مستنكرا ) أمازال هناك من يتذكر ؟ و مين ما يعرفش المهندس ؟ ( قفزت على رأسه أقبلها ) مين ينسى أوليمبياد روما و طوكيو و كاس فلسطين ؟ مين ينسى فوزكم بكاس أمم افريقيا ؟ مين ينسى رجاله الزمن الجميل ؟ رفعت الفناجيلي و صالح سليم و طارق سليم و الشربيني و الشيخ طه و عبده نصحي و شحته ؟ مين ينسى منتخبنا العسكري اللي فاز على ايطاليا 2/ صفر في روما ؟ ( انهمرت دموعي تغرق الكون من حولي ) معقول ؟ هي دي مكانتك يا كابتن ؟ بتبيع سجاير و بيبس ؟ معقولة يا أبو الكباتن ؟ ( سمعت غليان صدره يتأجج ، تنهد تنهيدة عمر بأكمله ، ناولته النقود ) روح يا بني ما تقلبش عليا المواجع الله لا يسيأك .
معلش يا أبو الكباتن سامحني بس ده من حبي لك و الله ، طيب ممكن تنصحني يا عم رفعت ؟ بص يا بني ، أولا اوعى تكيل بمكيالين ، ثانيا لازم تحترف يا بني ، طول ما انته بتلعب محلي لا ها تروح و لا ها تيجي ، خلي عينك دايما على الاحتراف .
( أخذت منه بقية النقود و رحلت آسفا على ما صار إليه رمز من رموز الرياضة المصرية و العربية و الإفريقية )
اختارني الخواجة ( كرول ) لحراسة مرمى المنتخب الأوليمبي ، و بدأت مشواري مع التألق ، انتقلت إلى النادي الكبير ، كلما ارتقيت سلما ، كلما أسدلت الرهبة على قلبي قتامه ، فزت مع النادي بثمان بطولات للدوري ، و بأربع بطولات كأس مصر ، و بأربع بطولات كأس السوبر المصري ، و بثلاث بطولات كأس إفريقيا أبطال الدوري ، و ببطولتين للنخبة العربية ، و واحدة لبطل الدوري ، و بثلاث كأس السوبر الإفريقي ، و برونزية كأس العالم للأندية باليابان ، و مع المنتخب المصري فزت بثلاث بطولات كأس أمم إفريقيا ، و لكن ، بين الحين و الآخر تتراءى أمامي صورة الكابتن ( فناجيلي ) و هو يجلس في كشكه الخشبي ، خاصة بعد سحب شارة ( الكابتن ) مني بسبب خروجي خطأ على إحدى الكرات ، إذا كان اللي بيتكلم عاقل يبقى اللي بيستمع مجنون ، و بدأت أشعر و أمر بكل ما مر به الرجل ، و بدأ أعرف ما هو موضوع ( الكيل بمكيالين ) ، كثيرا ما حدثتني نفسي ، هل سيكون مصيري داخل كشك خشبي ؟
حلمت طوال حياتي بالاحتراف في أحد الأندية الأوربية ، و جاءتني الفرصة بعد فوزنا بكأس الأمم الإفريقية بالقاهرة ، و لكن نظرا لتمسك إدارة النادي الشديد بي لحين انتهاء الموسم ، و نظرا للوعود التي وعدوني إياها بتوفير فرصة للاحتراف بعد نهاية الموسم ) لقد وفرنا الاحتراف لابن الكابتن فلان و نحن من جعلنا ابن الكابتن علان يحترف ، و في أي لحظة ممكن نخليك تحترف ببساطة ، الاحتراف عند أطراف أصابعنا .
( نعم لم نسجل هذه الوعود بالأوراق ، و لكنني أثق في وعود إدارة النادي أكثر من ثقتي بنفسي ، فهي عندي مسجلة بماء الذهب ، و لكن مع الأسف الشديد تهاوت هذه الوعود بمجرد انتهاء الموسم ، جرح عميق شق قلبي تجاه من حنثوا بوعودهم ، عندها لاحت أمام عيني صورة الكابتن ( الفناجيلي ) ، وجدت صوته يتردد بسمعي ( إياك و الكيل بمكيالين ) طلبوا مني البقاء مقابل أي مبلغ أطلبه ، ما العمل الآن ؟ فالعروض التي كانت متاحة وقت الوعود هوت بصحبة وعودهم ، نعم ، لم تعد متاحة الآن ، و من سيقوم بشراء لاعب لا يستفيد منه بعد انتهاء موسم الانتقالات هناك ، خاصة و أنني بلغت الثالثة و الثلاثين من العمر ، أضررت مرغما للموافقة على التجديد ، و لكن جرح قلبي العميق لن يندمل ما حييت ،
تهادت إلي الفرصة ثانية عندما اشتركنا بكأس أمم إفريقيا بغانا ، كنت عازما على القبول بأي فرصة للاحتراف و ليكن ما يكون ، كنت مصرا على تحقيق حلمي الذي حولوه إلى سراب ، ها هي الفرصة تتراقص بعيني الآن ، تذكرت عندما كنت طفلا ، فاتني القطار مرة ، لكنني كنت مصرا على ألا يفوتني ثانية ، يومها كدت أفقد حياتي ، وقعت بجوار عجلاته ، و لكن حاولت و حاولت حتى لحقت بآخر القطار ( السبنسة