الرشوة في مصر منتشرة كالنار في الهشيم, حتى كادت أن تصبح جزء ا من الحياة اليومية للمواطنين. تدرك بحواسك أن الموظف يطلب رشوة – بدون حياء – حينما يقول:
فين الشاي بتاعي
أو: كل سنة وأنت طيب – حتى ولو لم نكن في أعياد الميلاد أو أي مناسبة أخرى
أو "كلك نظر".
أو يفتح لك درج المكتب.
أو "فوت علينا بكرة يا سيد" فتدرك ساعتها أنه عليك أن تتصرف وتدفع.
أو: فين الحلاوة.
باختصار: الأسلوب يختلف حسب طبيعة الموقف الذي ستجد نفسك فيه عند تعاملك مع الموظف, ومدي ما يتمتع به من سلطة.
ورغم موقف الإسلام الواضح من الرشوة إلا أنها تفشت في الفترة الأخيرة بسبب الفهم الخاطئ لقواعد الدين وأصوله. وقد كتب الروائي يوسف إدريس روايته الرائعة "العيب" بين فيها بمشرط الطبيب كيف تتغلغل الرشوة داخل المصالح الحكومية.
واوضح كيف يضطر الموظف إلي الوقوع في براثنها بسبب ضعف الراتب من خلال "سناء" التي تستلم عملها في إحدى الجهات الحكومية وترفض تعاطي الرشوة رغم ظروفها. وتتعرض في نفس الوقت لتحرشات جنسية من جانب زميل لها.
صراع يستمر طوال أحداث الرواية , نعيش فيه أزمة سناء التي تعجز عن تدبير مصاريف أخيها الدراسية , إلي أن ينجح أحد الشياطين في إغوائها وتنضم إلي جيش المرتشين بل وتقع في الرذيلة.
والقارئ لرائعة إدريس يجد غرابة حينما يجد باشكاتب المكتب يفصل بين تلقي الرشوة وأداء الصلوات الخمس. تدين ظاهري ليس إلا. والله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وهنا تثار عدة تساؤلات:
لماذا انتشرت الرشوة في مجتمعنا؟
وهل الحكومة تشجع على انتشار الرشوة بدفعها رواتب ضعيفة للموظفين لا تكاد تكفيهم؟
وهل تقاضي الموظف – سواء يعمل في القطاع الخاص أو العام- لراتب ضعيف يبرر له أخذ الرشوة؟
وكيف يتصرف المواطن حينما يجد أن مصلحته لن تقضي إلا بدفع رشوة؟
وهل صحيح أن الآثم يقع في هذه الحالة على الموظف المرتشي فقط ؟
وهل يتقبل الله عمل موظف يطلب الرشوة ويقيم الصلوات؟.
وما هي مشروعية أن يدفع شاب لرشوة لكي يحصل على وظيفة؟
وهل الراتب الذي يحصل عليه حلال أم حرام؟
أسئلة كثيرة تواردت علي الخاطر وجعلت القلب مهموما.
ولإزالة علامات الاستفهام وبحثا عن الحق تحادثت هاتفيا مع الشيخ عادل عبدالمنعم أبو العباس - عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف.
الشيخ عادل: يبدو أن الرشوة عرفها الإنسان منذ أمد بعيد حيث أن النبي حذر الصحابة من خطرها فقال صلي الله عليه وسلم (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش). والرائش هو الوسيط بين الراشي والمرتشي .
وقد أخبرنا صلي الله عليه وسلم أن كل إنسان مكلف بالعمل الذي أنيط به فقد بعث بعض الصحابة لجباية الزكاة , فلما جاء رجل وقال: يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي إليَ . فقال صلي الله عليه وسلم بعد غضب: ما بال الرجل نستعمله على العمل يقول هذا لكم وهذا أهدي إليَ, فهلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له أم لا.
وقد جاء في القرآن أن الرشوة قد تكون أكثر قدما من عصر النبوة , حيث أن بلقيس ملكة سبأ حاولت أن ترشي سليمان عليه السلام بالهدية فقال سليمان (أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ) الآية 36 – سورة النمل.
ومعني ذلك أن الإنسان مجبول على حب المال بغض النظر عن كونه حلالا أو حراما , ولا يسأل عن مصدر المال إلا من يتق الله وهذا ما حدثنا عنه نبينا صلي الله عليه وسلم عندما قال في جزء من حديث له ( يٌسأل الرجل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) .
أما موضوع انتشار الرشوة فقد وجد في كل العصور عند ضعاف الإيمان والنفوس بل ووصل عند بعض من يدعون التدين دون فهم لاصول الدين وقواعده. وقد سميت الرشوة بمسميات مختلفة منها "البرطلة" في العصر العثماني, وقد يسمونها الهدية وهي ليست بهدية. وقد توجد مسميات لكل عصر وزمن إلا أن الغالب عليها لفظة الرشوة. ورسولنا الكلريم ينبنأ بذلك حين قال صلي الله عليه وسلم (يأتي الزمان علي امتي يسمون فيه المنكرات بغير اسماءها ).
والسبب الأساس في انتشارها حاليا هو ضعف الوازع الديني لأن الإنسان لو رضي بالقليل لعاش كما عاش آبائنا وأجدادنا على الكفاف ولم يمدوا أيديهم لأي إنسان حفظا للكرامة وخوفا من عذاب الله الذي توعد به المرتشي والرائش والراشي .
وقد يتعلل البعض بضعف الراتب ومع أنه حقيقة ويكفي بالكاد إلا أن الشرط بين المتعاقدين هو الأصل في الإسلام لأن "العقد هو شريعة المتعاقدين", فإذا تعاقدت الدولة - أي دولة – مع موظف على العمل لفترة معينة من اليوم مقابل أجر معين ورضى الطرفان فمعني ذلك أنه ممنوع ا شرعا بان يمد يده أو يعطل المصالح من أجل أن يوضع له مال في درج مكتبه.
بعض الشباب يقوم بدفع مال من أجل الحصول على وظيفة, ويؤكدون أنهم بهذه الأموال يحصلون على وظيفة هي حق لهم؟
- البطالة داء يفتح الباب لعدم السؤال عن مصدر الرزق أمن حلال أم من حرام. والشاب الغني قد يكون صاحب حق لكنه حينما يدفع رشوة ليحصل على حق غيره يكون هنا قد ظلم و أخذ حق الشاب الفقير الذي لا يستطيع أن يدفع أموال للحصول على الوظيفه.
ويقول تعالي في القرآن الكريم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقد فسر العلماء هذه الآية بان الإدلاء يُقصد به الرشوة لكل حاكم في منصبه وعامل في وظيفته بسبب السلطة التي يملكها.
وهناك أسباب أخرى للرشوة منها أن صاحب الرشوة قد لا يستطيع أن يدفع مباشرة فيلجأ إلي الرائش وهو الوسيط بين الراش والمرتشي, وهو بذلك يفتح باب الشر والغضب لأنه بلا شك باب من أبواب الحقد والحسد الذي يكنه صاحب الحق وهو لا يملك هذا المال لهذا الذي أخذ حقه وبذلك يستشري الفساد وتعم الفوضى وهو باب من أبواب انهيار الأمم وانهزام الحضارات وزوالها.
البعض يتحجج بأن الآثم يقع على الموظف المرتشي فقط, أما الراشي فأنه كان مضطرا لدفع الرشوة حتى يقضي مصلحته؟
بالنسبة لمن يقع عليه الآثم وقول البعض أن الموظف المرتشي هو وحده من يتحمل الوزر كله نقول أن على صاحب الحق أن يبحث عن حقه بعيدا عن دفع المال وبكل السبل الممكنة التي تجعله لا يدفع مليما واحدا فإذا عجز ذهب إلي أهل الصلاح - أن وجدوا – أو الأعلى منصبا ليطلب حقه وهذه يسميها القرآن شفاعة حسنة (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) .
والشفاعة السيئة تنصب علي كل من يسلب حقوق الناس أما بالقول أو بالفعل أو بأخذ المال. فأن سدت على صاحب الحق كل السبل فأن اللعنة حينئذ تنصب على المرتشي , ومعني ذلك أنه ليس على صاحب الحق أن يدفع المال سريعا وإنما عليه أن يأخذ أولا كل السبل التي توصله إلي حقه, فإن دفع سريعا فإن اللعنة تنصب عليه أيضا لأنه يدفع الباب لطمع المرتشي.
هل يمكن أن نفسر حديث رسول الله (يأتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار ) اي أن الدين سيكون سببا في حدوث متاعب للمتمسك به؟
- كل المصلحين في كل زمان ومكان - قبل الإسلام وبعده - هم الذين يجدون العراقيل, وأكثر من وجد صعوبات هم الأنبياء الرسل, ومع ذلك لم نجد واحدا منهم يدفع مليما واحدا من أجل دفع رسالته أو التنازل عنها (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) .
أخيرا كيف يمكن أن نعالج موضوع الرشوة؟
أولا بالتربية الإسلامية وبتعليم الأجيال الجديدة أن المال الحرام لا ينفع صاحبه وان الله مطلع علي العباد, وإن الإنسان مطالب بالتحري حتى أن الصالحين قالوا ( إذا ضاع الإيمان فلا أمان) فإذا أردنا أن نعيد للمجتمع كيانه فلنعلم أنه ليس بالصلاة وحدها ولا ببقية العبادات والحديث يقول أنه عندما جلس النبي بين أصحابه يوما وسألهم { أتدرون من المفلس ؟} قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع .
فصحح لهم الإجابة قائلا { أن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاه ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، واكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فان فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه اخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار}.
فمع أنه كان مصليا وحاجا ومعتمرا إلا أنه سلب أموال الناس بالباطل وأكل الرشوة فكان مصيره جهنم وبئس المصير . نعوذ بالله منها.