تعد تركيا من أهم بلدان الشرق الأوسط، وهي تحمل تاريخا مثقلا بالصراعات والمركزية والسيادة، وتحتضن مجتمعا متنوعا ومركبا، وهي بوابة الشرق إلى أوروبا، وقد تأسست جمهوريتها الحديثة على يد اتاتورك ورفيق دربه عصمت اينونو.ولم يزل اتاتورك يعد رمزا لتركيا ولم تزل المبادئ الوطنية الستة التي ارساها ثوابت أساسية، متمثلة بالوطنية والدولتية والدستورية والجمهورية والعلمانية والتغريب.
وبالرغم من المناخ الليبرالي الذي سادها، الا ان دكتاتورية عسكرية كانت قد تشكّلت فيها لحماية النظام الكمالي العلماني والحفاظ على الدولة وأمنها، وغدت تركيا عضوا في السانتو ومن ثم في الأطلسي خصوصا ايام تفوق الدب السوفييتي الذي كان يحاددها وقمعها للشيوعيين الأتراك.. وفي خضم مشاكلها القومية مع كل من الأكراد والأرمن مثلا تبلور تيار إسلامي تركي غير متشدد ابدا، ولا يشابه التيارات الإسلامية الأخرى في المنطقة.. وقد وصل السلطة من خلال الانتخابات على يد زعيمه اربكان.
وفي ظل هذا الأخير، نشأ شابان تركيان متلازمان، ويؤمنان بتيار اربكان وفكره فسارا على دربه. كان الأول هو رجب طيب اردوغان، وكان الثاني عبد الله غول، وقد وصلا السلطة، فكان الاول رئيسا للوزراء وكان الثاني وزيرا للخارجية، وهو الذي يستعد اليوم ليشغل رئاسة الدولة بعد ان غدا مرشحا وحيدا. ويتخوف العلمانيون الترك على مبادئهم أكثر من اي شيء آخر، خصوصا وان غول هو المرشح الوحيد حتى الآن، وهو أحد ابرز قادة حزب العدالة والتنمية المعروف بفلسفته الإسلامية المستنيرة في الحكم ؟
ولد عبد الله غول في 1950 في قيسارية. درس الاقتصاد بجامعة اسطنبول وتخرج عام 1971، وحصل على الدكتوراه عام 1983. شارك في التدريس الجامعي 1980- 1983. وعمل في البنك الإسلامي للتنمية بجدة 1983- 1991.
انتخب نائبا عن حزب الرفاه. وفي عام 1993، عين نائبا لرئيس الحزب مسؤولا عن الشؤون الخارجية. أعيد انتخابه عام 1995. شغل منصب وزير الدولة والمتحدث باسم الحكومة 1996- 1997. وفي عام 1999، أصبح عضوا في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا بين 1999- 2001.
وفي عام 2001 منح وسام استحقاق لعضوية الشرف من بين المنتسبين للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا. في أغسطس 2001، أصبح عضوا في المجلس التأسيسي لحزب العدالة والتنمية الذي حّل محل الرفاه. وأعيد انتخابه في نوفمبر 2002 بوصفه عضوا في البرلمان. وفي مارس 2003، عين نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيرا للخارجية، وعدّ رفيق درب اردوغان من دون ان يفترقا ابدا.
من الأشياء الموجبة التي يتميّز بها الإسلام السياسي التركي المعاصر تباينه الكبير عن ذاك الذي نشهده في مجتمعات أخرى في المنطقة والعالم الإسلامي، اذ يتمتع بهدوئه وقوة صبره ومرونته وانفتاحه على التفكير السياسي في العالم.. فضلا عن استنارته واستيعابه من يخالفه في خضم العملية السياسية الداخلية ولقد ورث هذا الجيل الجديد تقاليد حزب الرفاه التي أرساها اربكان.. ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في القادة الإسلاميين الأتراك الجدد انهم يقّدمون مصالحهم التركية الوطنية على اي فكر أو شعار أو هدف آخر..
وهم يعرفون حق المعرفة حجم من يتعاملون معه في الداخل وخصوصا هيمنة العسكر على مقاليد الأمور فضلا عن حجم القوى العلمانية التركية.. ناهيكم عن تخفيفهم من حدة الصراع السياسي والاجتماعي في المجتمع التركي المعاصر. واعتقد انهم من أذكى السياسيين الإسلاميين ليس في الوصول إلى حكم تركيا، بل في أساليب تعاملهم مع اليمينيين الأتراك المتطرفين، وهذا ما كنت قد أشرت إليه في كتابي عن العرب والأتراك الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية قبل أكثر من عشر سنوات.
لقد كسب غول خبرة وتمرسا في السياسة الخارجية في حين خبر رفيقه اردوغان السياسة الداخلية، واعتقد إنهما وجهان لا ينفصلان لمنظومة فكرية واحدة تستلهم أسسها من مصدرين أساسيين أولاهما التراث الإسلامي التركي وثانيهما الفكر التركي المعاصر.. إنهما من حماة العلمنة التركية ليس لترويجهما لمكاسب سياسية، بل لأنهما أساسا يؤمنان بحاجة تركيا إليها.
كان غول صادقا عندما صّرح بعد الإعلان الرسمي عن ترشيحه لرئاسة الجمهورية، قائلا : «سياستي الأولوية هي حماية العلمانية. وأقول، واذا كان البعض قلقا أقول له، من فضلك لا تقلق... ان مبدأ العلمانية هو مبدأ دستوري. حماية العلمانية هو واجب ومسؤولية الرئيس. همي ان ترتفع تركيا إلى مستوى الحضارة الحديثة.
وان اتاتورك فوق الجميع. كما سيكون من واجبي مساعدة حكومتنا في هدفها نحو الاتحاد الأوروبي ». وتعهد الرجل بحماية الدستور العلماني الذي يفصل الدين عن الدولة في حال انتخابه. وتأتي تصريحاته هذه تطمينا للنخبة العلمانية في تركيا والتي تشمل جنرالات في الجيش وانتلجينسيا وقوى متنوعة ساورتها شكوك بشأن ماضي غول الإسلامي وبشأن الحجاب الذي ترتديه زوجته !
وكانت هذه النخبة قد وقفت في طريق ترشحه للرئاسة في مايو الماضي مما أدى لانتخابات مبكرة فاز فيها حزب العدالة والتنمية. ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الحزب، يشغل 341 مقعدا في البرلمان المؤلف من 550 مقعدا، ومن المتوقع أن يفوز في الجولة الثالثة من الانتخابات المزمع إجراؤها في 28 أغسطس الجاري .
حيث لا يحتاج إلا لأغلبية بسيطة. إنني اعتقد ان عبد الله غول له القدرة على معالجة مشكلات تركيا الداخلية، ولن يقدم ابدا على أي تغيير في المبادئ التركية التي أرساها اتاتورك قبل أكثر من ثمانين سنة.. كما سيعرف هذا الرجل كيفية تسويق تركيا أوروبيا وكيفية تعزيز موقع تركيا في العالم الإسلامي. ولنا ان ننتظر دوره القادم.