بدلاً من التفجع والندب السياسي محمود الريماوي لم يتغير شيء يذكر في رؤى الساسة الأمريكيين، بخصوص موقع ودور تل أبيب في المنطقة. فقد رأى فيها المرشح الديمقراطي باراك أوباما “معجزة". وليس أقل من ذلك. وهو تصريح أذهل العرب والفلسطينيين، فقبل أسابيع كان الرئيس جورج بوش يخاطب الكنيست بخطاب توراتي، وذلك بمناسبة الذكرى الستين لقيام الدولة العبرية على أرض فلسطين. ولم يكن ذلك بغريب كل الغرابة، على من يدعي أن الخالق يخاطبه. غير أن الانطباع يختلف عما بدر عن غريمه الحزبي، الذي أعرب عن ولائه التام لتلك الدولة من منطلقات دنيوية لا دينية، وبطريقة يفهم منها أن الفلسطينيين هم من يقومون بالاحتلال. مع ذلك فالرجل يريد لهم على جاري الخطاب الأمريكي دولة، وليس مهماً ما الذي حل، ويحل بأرض تلك الدولة المزعومة، وماذا يحل بشعبها على أيدي زعماء الدولة المعجزة.
على أن هذا الانطباع ليس كافياً، فأوباما خاضع حقاً كغيره من الساسة الأمريكيين لمسلمات الولاء للدولة العبرية، باعتبار ذلك تراثاً سياسياً للإدارات المتعاقبة. ويبقى له مع ذلك ما يختلف فيه عن غيره، فهو من جهة رجل حوار ولا يؤمن بعسكرة السياسة الخارجية لبلاده، وهو مع الحوار مع إيران وسوريا، مع سحب متدرج وقصير الأمد للقوات الأمريكية من العراق، ومع مقاربة يسميها جديدة لملفات العراق وأفغانستان ولبنان وحماس وحزب الله. هذه الرؤية الرحبة، تشجع على الحوار وإشاعة مناخ جديد في المنطقة. ومن شأن ذلك أن ينعكس على الموقف من استمرار الاحتلال “الإسرائيلي" والسعي لتصفية القضية الفلسطينية. وهذا هو مفتاح هجمة الجمهوريين عليه، فالخلاف ليس انتخابياً فقط حول تعظيم فرص الفوز لهذا الفريق وإطفائها لدى الطرف الآخر، بل يتعلق برؤى استراتيجية بعيدة المدى وبالغة الأثر.
الاستخلاص حول انحياز أوباما صحيح، لكنه ليس كافياً، فالاكتفاء به هو من قبيل تعزية الذات المكلومة. إذ إن المسألة الأهم والأدعى للتوقف عندها هي تفحص ما الذي فعله الفلسطينيون والعرب، لتغيير الصورة النمطية لدى النخب الأمريكية إزاء دولة الاحتلال، وحيال الحقوق التي سلبتها وتجاه عملية السلام برمتها. وما الذي فعلته الجامعة العربية، مثلاً، في الحملة الانتخابية الرئاسية لتبيان حقيقة الوضع السياسي القائم في منطقتنا، خلافاً لموقف المراقبة عن بُعد خشية الاتهام بالتدخل؟
لقد تم بذل جهود، والقيام بتحركات بلا حصر تجاه إدارة بوش على مدى السنوات السبع الماضية، وتم استقباله على الأرض العربية غير مرة، فيما تم استقبال موفديه عشرات المرات، ومؤخراً اجتمعت رايس في القاهرة بتسعة وزراء عرب في اجتماع لم يكن الاول من نوعه. غير أن الدبلوماسية العربية اعتصمت على الدوام بأسلوب المناشدات والمخاطبات، وبأسلوب الدبلوماسية التقليدية، ولم تنتهج أي اسلوب آخر. وتعتبر طريقة محمود عباس الذي زار البيت الأبيض ست مرات، في المخاطبة الخافتة للإدارة والتغني بالسلام والتفاوض، وإبداء كل أشكال حسن النوايا، وإظهار مدى الضعف وقلة الحيلة، أوضح دليل على هذا الأسلوب القاصر، الذي نقلت مظاهره وسائل الإعلام الأمريكية وتبلغ به أوباما قبل ترشحه للرئاسة.
في القناعة، أن هذه الأسئلة المهمة هي التي تستحق أن تطرح، بدلاً من الاستغراق في التفجع والندب السياسي وترديد عبارات مثل: “كلهم ضدنا، كلهم علينا، لا فرق بين أحد منهم، المؤامرة لن تتوقف". فالمهم أن ننصف نحن أنفسنا وننتصر لقضايانا العادلة، قبل أن نسأل الإنصاف والعدل من الآخرين، وأن نلتمس اساليب فعالة ومقاربات جدية، تحمل كل مسؤول أمريكي على تبصر مخاطر الاستهتار بالحقوق الفلسطينية والعربية، وإدراك ما يتمتع به العرب من إمكانات لانتزاع حقوقهم المشروعة، وقدرتهم على إظهار مدى خلافهم مع الإدارات المتعاقبة، في انحيازها الهستيري لتل ابيب وتشجيع تلك الدولة المارقة على ازدراء الشرعية والقانون الدولي.
في الحصيلة، فإن التصريحات الخرقاء والتافهة لمرشح الحزب الديمقراطي، يتعين ألا تدفع لإعفاء النفس من واجب مخاطبته، وكذلك مخاطبة منافسه الجمهوري جون ماكين، ومن ورائهما الرأي العام الأمريكي، باللغة المناسبة، من قبيل أن حقوق العرب ليست للبيع ولا هي محل مساومة ومزايدة بين المرشحين للرئاسة، وأن بوسع اوباما وماكين على السواء منح واشنطن أو أية مدينة أمريكية أخرى كي تكون عاصمة للدولة العبرية، بدلاً من إهداء القدس العربية للمحتلين كي تكون عاصمة لهؤلاء.
المواقف الالتفافية التي تنحو نحو التعميم والمواقف المبدئية، والقفز عن التحديات الراهنة والفعلية، لا تجدي فتيلاً في مخاطبة ساسة أمريكيين، كما تدل على ذلك خبرة ستة عقود. ومن ينتظر مواقف كالتي اتخذها الرئيس الأسبق ايزنهاور في العام 1956 بحمل القوات “الإسرائيلية" على الانسحاب من سيناء ومن غزة، عليه أن يستذكر أسلوب عبدالناصر في التعامل مع الإدارات الأمريكية، أيا كان الموقف من مجمل أداء الرئيس المصري الراحل. فالمهم هو التوقف عن المراهنة على إبداء الضعف، وعن اتباع دبلوماسية تقليدية مع واشنطن كتلك التي تتبع مع فنلندا أو سنغافورة، وعندها يمكن لساسة مثل أوباما أو سواه أن يحسب حساب العرب والفلسطينيين، حين يتغنى بالدولة العبرية وباحتلالها للقدس، متجاهلاً أن الناخبين الأمريكيين وهو أحدهم، دفعوا ثمن المطامع التوسعية مرتين، مرة من جيوبهم، ومرة من سمعتهم كحلفاء للعنصرية الصهيونية. عن صحيفة الخليج الاماراتية 28/7/2008