عبد الناصر.. الزعيم الأسوأ حظا!! د. سعيد اللاوندي لست أشك لحظة واحدة في أن الرئيس جمال عبد الناصر هو من أسوأ زعماء العالم حظا, فكل الذين قام من أجلهم بالثورة, وحصل آباؤهم علي حقوقهم المسلوبة يناصبونه ويا للعجب العداء ويتعمدون تشويه الفترة الناصرية, وإلصاق أقذع الصفات بها. وأذكر اني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي أعددت في ذكري رحيل عبد الناصر برنامجا للبث عبر اذاعة الشرق في باريس ودارت مناقشة حامية بيني وبين مسئول البث( وكان لبنانيا) وبعد اصراره علي حذف بعض العبارات انتهي بالقول: لا يزايد علينا أحد في حب عبد الناصر, فنحن( أهل الشام الكبير) الذين حملناه بسيارته علي أعناقنا في حدث مشهود, وهتفنا, ولا نزال, بعبد الناصر زعيم الأمة العربية. وأشهد أني رأيت أساتذة وزملاء لي في الجامعة في أوائل السبعينيات كانوا يبكون( حنينا) وهم يتحدثون عن عبدالناصر, ويدفعوننا دفعا للكتابة في مجلات الحائط عن عبد الناصر( الخالد الذي لا يموت).. ثم وبعد أن تبوأوا المقاعد وذاقوا طعم النفوذ والسلطة كانوا أول القاذفين بالطوب والحجارة لعبد الناصر والفترة الناصرية. وهذا لعمري قمة المأساة في سوء الحظ الذي لازم الرجل. فمن نكد الدنيا علي هذا الزعيم أن يجد الطبقة الوسطي التي انتصر لها طوال حياته هي ذاتها الطبقة التي تهيل عليه التراب, وتتهمه بالصحيح والزائف.. ومعلوم أن هذه الطبقة كانت تشكل99,5% من مجموع الشعب المصري بإعتبار أن مجتمع النصف في المائة هو الذي كان يحكم ويحتكر ويتسيد في كل المواقع.. وما أحسبه بحق من سوء الحظ أيضا أنه لولا عبد الناصر لما تعلم أبناء هذه الطبقة ولما تمكنوا من الصعود إلي أعلي المناصب.. لكنهم ويا للعجب يتنكرون للرجل ويسومونه( معنويا) صنوف العذاب, ولا يترددون في اغتيال الأخضر واليانع في فترة حكمه لتبدو وكأنها خراب في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهذا زيف لا يستقيم مع وقائع التاريخ الذي لا يكذب أو يتجمل. ومن سوء الطالع أيضا أن يعود إلي الواجهة من جديد الاقطاع القديم( الذي دحره عبد الناصر) والرأسمالية المستقلة( التي أممها) لتملك في شراسة أضعاف أضعاف ما أخذ منها, ثم ها هي لم تنس جراح الماضي, فعكفت علي الانتقام( ليس من عبد الناصر الذي أصبح في زمة التاريخ) وإنما من الطبقة الوسطي التي تقلصت وتكومت علي ذاتها حتي كادت تذوب وتندثر.. والمثال الصارخ علي ذلك: أن مجانية التعليم والعلاج التي كانت هذه الطبقة من أكثر المستفيدين منها. أصبحت وهما وسرابا. وتولت العولمة المتوحشة ما تبقي من أمر هذه الطبقة, فدخلت بيوت العمال في حلوان والمحلة الكبري وحولتها إلي صحراء جرداء.. وأجهز غول الأسعار والتضخم علي الباقي, فتدمرت قلاع الانتاج, وتصحرت الأراضي الزراعية وجفت الوديان مما أرغم الفلاح علي ترك أرضه, والتسكع في المدينة! وهجر العمال مصانعهم وركبوا البحر في هجرة سرية غير مضمونة العواقب.. وقضت عوامل التعرية علي جميع مظاهر الحياة, وأصبح المجتمع خاليا من امارات الكفاية والعدل التي لطالما حلم بها عبد الناصر. .. ومن قبيل سوء الحظ كذلك أن المرحلة التي تلت حكم عبد الناصر( وهي فترة الرئيس السادات) كانت من أكثر المراحل التي تعرض فيها عبد الناصر للهجوم ونكران الفضل, وتنافس الكتاب في تجريحه بدءا بالكاتب موسي صبري وانتهاء بعبد العظيم رمضان مرورا بكثيرين أشهرهم توفيق الحكيم, وثروت أباظة وأنيس منصور. ورغم أن السادات أكد في أكثر من مناسبة أنه كان شريكا لعبد الناصر في كل القرارات.. إلا أن حملات التشويه لم تتوقف وأصبحت كالنغمة التي يعزفها كل طامح أو طامع أو متزلف.. وحتي تكتمل مأساة سوء الحظ فلقد قيض الله لعبد الناصر جملة من المدافعين الذين يفتقد معظمهم الي المصداقية, فأساءوا للرجل وسيرته من حيث ارادوا الخير له, وأصبح الانتساب الي الناصرية بسبب عبث هؤلاء تهمة يتنصل منها الناس كافة. ومما زاد الطين بلة ان المسمون بالناصريين لا تنتهي الخلافات بينهم, ولا يكفون عن التلاسن والتراشق بالاتهامات( بالعمالة, والخيانة, والعمل لحساب انظمة سياسية أخري) والدليل علي ذلك ان رصيدهم الشعبي فقير, وانجازهم السياسي والاجتماعي( حزبيا) هش رغم تمتعهم برياح تسمح بالكتابة وحرية التفكير.. إلا انهم وهذا هو ديدنهم فضلوا التمويهات والتضليل ولي عنق الحقائق.. والكتابة باسلوب الفبركات, والأكاذيب فأضروا بصورة( الناصرية) التي أصبحت ويا للأسف مرادفا للمهاترات والسباب والصوت الأجوف. لذلك كان الحصاد النهائي مرا ولم يخلف في الحلقوم غير الغصص المؤلمة.. والغريب أن بعض النظم والقيادات السياسية التي رضعت لبن الناصرية( الطاهر العفيف) وأدعت أنها أمينة علي القومية العربية عادت وتنكرت لكل ذلك, وأصبحت من ألد أعداء فكرة القومية والعروبة معا. وهكذا خسر اسم عبد الناصر من رصيده الكبير دون أي ذنب خصوصا في ضوء الميديا التي لم تترك( في خبث) شاردة أو واردة تتعلق بتراث الرجل الفكري والسياسي إلا وألصقت به الاتهامات. * أقول أخيرا إن قناعتي أن عبد الناصر رجل سييء الحظ, لكنه يا للمفارقة الأبقي أثرا وذكرا في النفوس, فمصر الحديثة يذكرها التاريخ برجالات.. عبد الناصر هو أبرزهم. وأمام حملات التشويه التي يتعرض لها هذا الرجل منذ رحيله وحتي اليوم تكفي زيارة إلي الريف المصري.. فالمفاجأة أن عبد الناصر قابع هناك في صدور الآباء والأمهات.. وهو إرث يأخذه الخلف عن السلف ولعل في ذلك( وحده) العزاء والسلوي من لعنة سوء الحظ التي لازمت هذا الرجل العظيم كظله. جريدة الاهرام المصرية 30/7/2007