يبقى الابداع الكبير في حاجة الى موهبة فذة، والمبدع المحترف.. يقلب افكاره ذات اليمين واليسار، يترك لها الروح تمتزج مع الفكر، هذا قبل شروع في صياغة ما.. ويجيء قرار الكتابة بعدما تختمر الفكرة تماما.. وهي التي تختار اسلوبها، وليس الكاتب! باولو كويلهو.. احد اهم روائيي العالم، احد الذين تختار افكارهم اسلوبية الخروج الى المتلقي، فيجيء التجريب مع كل رواية له.. كمعادل موضوعي للعالم الذي تتحرك فيه الشخوص. فعل ذلك في «الخميائي» و«احدى عشرة دقيقة» واخيرا في «ساحرة بورتو بيللو» وغيرها من الاعمال. في «ساحرة بورتو بيللو» اعتمد تعدد الاصوات.. حيث يفتتح العمل ص15 قائلا: «قبل ان تهجر هذه الافادات طاولة مكتبي وتسير في خطى القدر الذي اخترته لها، خطر لي ان استخدمها مادة اساسية لوضع سيرة تقليدية مدروسة بشمولية، تروي قصة حقيقية». يواصل كويلهو: «شرعت أقرأ سلسلة من السير المختلفة، لعلها تساعدني في الكتابة، فأدركت ان وجهة نظر كاتب السيرة في بطل روايته تؤثر - لا محالة - في حصيلة بحثه، وبما انني لم اكن انوي فرض وجهات نظري على القارئ، بل طرح قصة «ساحرة بورتو بيللو»، من منظار شخصياتها الرئيسة فحسب، فسرعان ما عدلت عن فكرة كتابة سيرة مباشرة، واستقر بي الرأي على المقاربة الفضلى، وهي ببساطة، نقل ما اخبرني به الناس. *** هذا التقديم يجيء منسجما مع الطرح الميتافيزيقي/الفلسفي، سواء لبطلة الرواية متعددة الاسماء - جميلة.. اثينا - شيرين - أو العالم الذي تشتبك معه الرواية. ولما تتعدد الاصوات، يمكن للمتلقي دخول العالم.. من خلال اية شخصية تروي له، ولولع الكاتب بالاماكن.. فقد جعل بطلة العمل تطل علينا - بداية - من لبنان من خلال اسرة ثرية تبنتها، ثم في هجرة الى اوروبا.. في بريطانيا تحديدا.. لكن اثينا لا تقنع بالحاضر الميسور والعيش الرغيد، اذ تتخطى الشارات الحمر بحثا عن ماضيها/جذورها.. ويتسع العالم/المكان من بيروتولندن الى دبي وترانسلفانيا. الغجر لعل ما نبدأ به في رسم الشخصية «اثينا» يجيء ص30، عندما تهم السيدة سميرة في تبنيها للطفلة «اثينا».. في حوار مع صديقة لها نقرأ: «كنت اجهل كل امر عن ثقافة الغجر، ولا ازال. كل ما اعرفه انهم يكثرون السفر، قليلا ما يغتسلون، ليسوا اهلا للثقة، يضعون اقراطا، تقول الاسطورة: انهم يختطفون الاولاد ويصحبونهم في قوافلهم، لكن هنا كان ما يحصل هو العكس تماما، فقد خلفوا وراءهم طفلة لأعتني بها». هكذا كان الامر، عندما حاولت الصديقة ثني سميرة عن تبني طفلة غجرية.. تلك التي ستمنحنا عالما استثنائيا، لشخصية متفردة ومتميزة في آن.. ويستمر الروائي في تقديم خصوصية الحالة لنطالع في ص39 اثينا تقول: «عشت في ساحة معركة منذ ولدت، لكنني لا ازال حية، ولا احتاج الى من يحميني». ويظل كويلهو بنا، يعطينا تفاصيل الشخصية، ففي ص47 نقرأ عن لسان اثينا: «اعرف انني موكلة بمهمة رفضتها لزمن طويل، وعليَّ قبولها الآن، وهذه المهمة هي ان اكون اما.. عليَّ انجاز هذه المهمة والا سوف اجن، اذا لم اشعر بحياة تنمو داخلي، فلن اتمكن من تقبل الحياة خارجي». هنا نلحظ البعد الفلسفي - كذلك - في الشخصية، فالشعور بالحياة داخلها هو السبيل الى الانخراط والتعاطي مع الحياة كلها. زواج تحصل اثينا على زوج يحبها، ينتمي الى عائلة ثرية، لكن اسرته تتخلى عنه لمجرد زواجه من الغجرية «اثينا».. تلك التي ترهقه تقلباتها، فيلجأ الى الحانات يجترع الخمر.. وذات ليلة اثر شجار في حانة ما بينه وبين آخر.. يتعرض للضرب المبرح، يواجه حالته اذ يقول للرجل الذي ضمد جراحه ص51: «كل ذلك بسبب امرأة لم تولني أي انتباه.. اخترتها ايمانا مني بأن الحب ينتصر على كل شيء، ليس ذلك صحيحا، احيانا يرمي بنا الحب الى الهاوية، ولزيادة الطين بلة يرمي معنا من نحبهم، في حالتي كنت ماضيا في تدمير حياتي.. وحياة اثينا وفايورل معي». هكذا دفعت اثينا زوجها الى الانفصال، احتضنت طفلها فايورل، لتبدأ رحلتها الاخرى من الحياة الاستثنائية، تلك التي ستأخذها بها الى عوالم ميتافيزيقية - ما وراء الطبيعة - بدأت بالرقص على ايقاعات بعينها تجيء من السهوب الروسية، رقص حتى الارهاق.. طلبا للدخول في حالة من الانخطاف! وتزداد ابعاد اللعبة، بين الممارسة/الفكرة.. والذات والآخر، ونطالع في منولوج لأثينا ص67: «الوحدة تزداد شدة عندما نحاول الوقوف امامها وجها لوجه، لكنها تضعف عندما نتجاهلها ببساطة»! تنجح في عملها في المصرف، لكنها تهجره الى امارة دبي.. وهناك تذهب في رحلة الى الصحراء، تلتقي بدوياً يعد العشاء في خيمة للسياح وفي حوارها معه نقرأ ص86: «كلما رقصت ارى نورا.. والنور يطلب اليَّ الآن ان اذهب ابعد، لكني لا استطيع التعلم وحدي، احتاج الى من يعلمني». البدوي كان موهوبا وماهرا في فن الخط - راح يعلمها وفي ص88 يقول لها: «اليد التي ترسم كل خط، تعكس روح الانسان الذي يسطره». وفي ص90 يقول لها: «ان الريشة التي ترسمين بها هذه الخطوط مجرد اداة لا ادراك لها.. هي تتبع رغبات الشخص الذي يحملها». سفر على الرغم من تعلمها فن الخط.. ونجاحها في العمل في شركة بيع العقارات، الا انها ترحل بحثا عن امها الحقيقية، ولما تقابلها تتعامل معها بقسوة، لكن الام تصبر عليها، وتتعرف الى طقوس الغجر، وتبدأ رحلة التأثير في الآخرين، ولما تعود الى لندن نقرأ في ص167 قولها: «مررت بتجارب كثيرة في الحياة، تعلمت من الغجر، من الدروايش في الصحراء، من..». هنا والآن.. امتلأت اثينا بالتجارب الحياة، اخذت وآن ان تعطي! شكلت اثينا جماعة ترقص معها عكس الايقاع، لنطالع ص209: «شعر الجميع بالهول لدى مواجهتهم فعل الرقص غير الايقاعي، ما السبب؟ لأننا متعودون فعل الاشياء كما ينبغي فعلها.. لا احد يرغب في القيام بالخطوات الخاطئة، خصوصا عندما ندرك اننا نفعل ذلك». تكبر المجموعة عددا.. تستأجر مخزنا في شارع بورتو بيللو الشهير في لندن ليمارسوا طقسهم هناك، هذا الذي اثار الانتباه، وبدأ الناس يختلفون بالسلب والايجاب مع الجماعة.. ووقعت مواجهات وشجارات وتدخلت الشرطة، تحدثت الصحافة، واطلق على اثينا لقب «ساحرة بورتو بيللو». يصل الامر حد رفع دعوى قضائية ضدها لاسقاط حضانتها عن ابنها.. وبتدخل محب لها من «سكوتلنديارد» جهاز الاستخبارات.. يدبر قصة موتها ليخرج بها من كل الازمات، بعدما رفضت المحكمة نزع حضانة الولد عن اثينا. عالم استثنائي هذا العالم الحافل/المفعم اثارة.. يجعل المتلقي يشتبك معه.. يتعرف الى تناقضات الذات الانسانية، ورغباتها أو دوافع الاخذ بها هنا.. هناك.. وكيف ان البعض يكون استثناء.. والآخر تابعا أو مجرد رقم.. هي رحلة ابحار مع الفكر، والخروج عن اسر ما يقبع فيه البعض. رواية «ساحرة بورتو بيللو» رواية معاصرة باسلوب جديد.. جاءت في 282 صفحة من القطع الصغير.. طبعة ثالثة 2007 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة رنا الياس الصيفي. ** منشور بصحيفة "الوطن" الكويتية 10 أغسطس 2009