في مناقشات المائدة المستديرة قصص مكسيكية تروي مأساة قلوب مُقطعة الأوصال محيط - سميرة سليمان في المائدة المستديرة التي تشرف عليها الدكتورة سهير المصادفة رئيس تحرير سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب والتي استضافها معرض القاهرة الدولي للكتاب كنا على موعد مع ندوة لمناقشة مؤلفات الكاتبة المكسيكية "إمبارو دابيلا" وبالتحديد المجموعة القصصية "?حين تقطعت الأوصال?" التي تضم بين دفتيها اثنتي عشرة قصة بالغة التنوع تسعى لاكتشاف العالم الداخلي الصاخب والمخيف والغامض الذي تحياه الشخصيات بعذابات لا حد لها على مستويين?: ?الخيالي والواقعي مما يمكنها من اكتشاف لغز مأسوية الوجود في قلب أوصال تقطعت?. أمبارو دابيلا كاتبة مكسيكية ولدت عام? ?1928??وتعد واحدة من أهم كاتبات أمريكا اللاتينية في القرن العشرين?.? ساهمت كتاباتها في دفع موجة التجديد بالقارة وبرغم قلة إنتاجها الذي لم يتجاوز الثلاث مجموعات قصصية، تُلقب في أمريكا اللاتينية ب? "?الماستر" ?ويعتبرونها من أوائل المؤسسين للكتابة الجديدة ومن أهم الكاتبات في القارة?.? حصلت علي جائزة? "?بيياوروتيا" ?للآداب وهي جائزة تمنح من الكُتاب إلى الكُتاب وتهدف إلى تقدير ونشر الإنتاج الأدبي المكسيكي?: ?تأسست في المكسيك عام 1957. كاتبة تحكمها المتناقضات أدار الندوة المترجم أحمد عبد اللطيف بمشاركة الكاتب ومترجم المجموعة محمد إبراهيم مبروك الذي أوضح في بداية حديثه أن: الكاتبة ولدت في 21 فبراير 1928 وعاشت طفولتها في قرية تحتضن عمال المناجم، وعانت في طفولتها كثيرًا، في حياة خشنة، وقرأت "الكوميديا الإلهية" التي أصابتها برعب وصدمتها صدمة كبيرة، والتحقت بمدرسة دينية وبدأت تكتب في المرحلة الثانوية "مزامير تحت القمر" وهو كتاب شعري، ثم "الصورة الجانبية الوحيدة" ثم "تأملات علي حافة الحلم"، وحين تجاوزت العشرين بدأت كتابة القصة، وعن طريق صديقة أرجنتينية أرسلت مجموعة دابيلا القصصية للكاتب "كورتاسر" فأدهشته المجموعة وصارت بين كورتاسر ودابيلا صداقة وطيدة. وكتابة دابيلا قليلة ودالة، وتتوجه من خلالها لعموم الناس وليس للمثقفين، وكثيرون قالوا أن كتابة دابيلا فانتازيا لكنها رفضت هذا التوصيف ورأت أن الوجود، هو المرئي وغير المرئي، المنطقي وغير المنطقي، الظاهر والخفي. عرفت دابيلا عددًا كبيرًا من كتاب المكسيك مثل "أريولا" الكاتب الكبير الذي شاركته حب القطط والذي قال لها أن قططها هي التي تكتب القصص وليست دابيلا، حيث احتلت القطط مكانة كبيرة في قلبها، فحين مات شقيقها في الصغر شعرت بالوحدة وارتبطت بالقطط وأحبتها لأنها تشاركها وحدتها. وتري دابيلا أن الكتابة لا تتم عن عمد، وفي كتابتها يحضر"الجو - الطعم - الرائحة"، ويضيف مبروك: هناك قدر كبير من الشعر في قصص دابيلا، فالعبارة عندها تحمل عدة معان، ولغتها من السهل أن تفلت من المتلقي ونهايات قصصها دومًا مفتوحة، وذكر أن دابيلا توقفت عن الكتابة ثلاثين عاما ثم عادت إليها من جديد. ويقول أحمد عبد اللطيف: أدب أمريكا اللاتينية قريب جدًا من الأدب العربي، نظرًآ للظروف السياسية والاجتماعية المتشابهة بين مبدع يعيش في العالم العربي وآخر يعيش في أمريكا اللاتينية، ويبدو أن أمريكا اللاتينية لازالت قادرة علي إدهاشنا، فآدابها دومًا تجد رواجًا لدى القارئ العربي. ولكن هناك مشكلة في عدم توافر أدب أمريكا اللاتينية تعود إلى عدم جرأة الناشر هناك على ترجمة أعمال أدباء كبار، واقتصار حركة الترجمة علي أعمال كاتب أو كاتبين فقط بينهما ماركيز بالطبع. الكاتب الكبير أشار عبد اللطيف ثانية إلى سؤال: "من هو الكاتب الكبير؟!" وقال: لا يمكن أن يكون المبدع كبيرًا بسبب كثرة أعماله، لكن لقيمتها حتى ولو كانت قليلة. وبهذا الصدد يقول مبروك: الكاتب الذي يحترم نفسه ويقدم إنجازًا قيمًا يصعب عليه أن يقدم كما من الأعمال، لأن الكتابة بالدرجة الأولى اكتشاف لمكان أو شخصية وتلبية لاحتياج أكثر عمقًا من السائد، ويجب أن يصل المبدع بفكرته إلى حالة الإلحاح على الكتابة حتى يكتب كتابة جيدة، والحالة الاقتصادية والنفسية كفيلة بابتعاد المبدع الحقيقي عن الإبداع. ضيف ثقيل الظل! حول قصص المجموعة تحدث محمد إبراهيم مبروك قائلا: من أهم قصص المجموعة قصة بعنوان "الضيف" تحكي عن زوج يحضر ضيفا للمنزل ولا تحدد القصة نوع هذا الضيف هل هو بشر أم حيوان ويسافر الزوج ويتعرض هذا الكائن للزوجة وخادمتها وطفلها الصغير ويتحول لمصدر خطر في البيت. تقول بداية القصة على لسان الزوجة: "لن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي جاء فيه ليقيم معنا. وزوجي هو الذي أتى لنا به وهو عائد من إحدى سفرياته. وفي ذلك الوقت كان قد مر على زواجنا ثلاث سنوات، وكان لنا طفلان، لكنني لم أكن سعيدة. ولقد حمل إلىَّ زوجي شيئا كما لو أنه قطعة أثاث، لكي تتعود الواحدة منا أن تراه كل يوم أمامها في المكان نفسه الذي قرر هو المعيشة فيه. لكنه لا يثير أي إحساس بوجوده. وتعرفنا القصة أكثر على صفات هذا الكائن حيث تقول الزوجة لتصفه: "لم أستطع أن أكتم صرختي أول مرة رأيته فيها رعبا منه. كان كئيبا ولئيما، بعينين كبيرتين صفراوين، وتقريبا مدورتين دون أن تطرفا، لأنهما تبدوان كما لو كانتا تخترقان الأشياء والأشخاص. وتحولت حياتي التعسة إلى جحيم. وفي ليلة وصوله نفسها توسلت إلى زوجي ألا يعذبني بصاحبه، ولم أستطع مقاومة ما أثاره في داخلي من عدم الثقة والرعب". وتمضي بنا القصة لتروي لنا مدى معاناة الزوجة وخادمتها جوالدالوبي من هذا الكائن حيث تقول الزوجة: "..والآن، عندما أتذكر ما حدث، يعاودني الإحساس بأنني مريضة..كانت جوالدالوبي قد خرجت للتسوق، وتركت صغيرها مارتين نائما في صندوق حيث تضعه وتنيمه أثناء النهار. وكنت أمشط لأولادي شعرهم عندما سمعت أنات الصغير مختلطة بصرخات غريبة، وعندما وصلت إلى الحجرة وجدته يضرب الطفل بقسوة، وما زلت لا أعرف كيف انتزعت الطفل منه". فاتفقت الخادمة مع سيدتها وفكروا في كيفية التخلص من هذا الضيف المزعج، وتقول الزوجة: "جاءت الفرصة في الوقت الذي أوشكنا فيه أن نفقد الأمل، فقد سافر زوجي راجعا إلى المدينة، ليتابع بعض أعماله، وسوف يتأخر في العودة، حسبما قال لي حوالي عشرين يوما" وكانت هذه هي الطريقة كما ترويها القصة: "نشرت جوالدالوبي بعض ألواح الخشب الكبيرة والصلبة التي تتحمل وفي الوقت نفسه كنت قد بحثت عن قادوم ومسامير ووجدتهم. وعندما استكملنا كل ما نحتاجه وصلنا دون أن نحدث جلبة إلى حجرته في ركن الحديقة. ألواح الباب كانت من أخشاب متباعدة، مددنا أيدينا وأنزلنا الترابيس وبعد ذلك أغلقنا الباب من الخارج بالمفتاح وبدأنا في دق ألواح الخشب بالمسامير حتى سددنا باب الحجرة بشكل محكم". وتضيف: "الأيام التي تلت ذلك، كانت مرعبة. فقد بقى على قيد الحياة أياما كثيرة دون هواء، ودون نور، ودون طعام، ودون ماء..في الأول ظل يدق على الباب، ويخبطه بجسده، وكان يطلق صراخه يائسا وهو يخربش فيه..لا جوالدالوبي، ولا أنا، كان باستطاعتنا أن ناكل أو ننام. كانت الصرخات فظيعة..وفي بعض الأوقات فكرنا في أن زوجي يمكن أن يعود قبل أن يكون هو قد مات..آه لو وجده هكذا!..كانت مقاومته كبيرة، واعتقدت أنه يمكن أن يظل حيا حوالي أسبوعين. وفي يوم لم أسمع بالفعل أي صرخات، ولا عويل، ولا تأوه وبالرغم من ذلك انتظرنا يومين كاملين زيادة عن الوقت المفترض. قبل أن نفتح عليه الحجرة. عندما عاد زوجي استقبلناه بخبر موته الذي كان مفاجئا ومحيرا لنا!". شبح في المرآة قالت الناقدة الميرغني: دابيلا تتناول قضايا المرأة بعيدا عن الضجيج والصخب فهي تقترب من عالم المرأة بطرق شفافة وإنسانية. وفي قصة مثل "المرآة" تعطي فرصة لخيال القارئ أن يعمل فهي تشوق القارئ دائما للنهاية. تبدأ قصة "المرآة" بقصة أم كسرت ساقها وذهب بها ابنها إلى المصحة وعندما زارها بعدها بأيام رأى الذعر باديا في عينيها وعندما سألها عرف أنها في تمام الثانية عشرة ليلا كل يوم موعد الدواء الليلي ترى في المرآة شبحا مرعبا هكذا كانت حالتها كانت تعاني من اضطراب عصبي واضح. حاول الابن نقلها إلى مكان آخر لكن سعيه باء بالفشل، وغيّر لها الممرضة التي تعطيها الدواء لكن ذعر الأم استمر أيضا. وفي النهاية قرر الابن البقاء معها في نفس الغرفة ليلة يقول: " عندما كانت الممرضة تعطيها الدواء صرخت ماما فنظرت أنا في التو إلى المرآة، وهناك لم تكن صورة الممرضة منعكسة عليها، المرآة كانت خاوية تماما، ومعتمة ومكفهرة". وجاء على لسان الابن خلال أحداث القصة: "على مدى خمسة أيام، عانينا ليلة فليلة، أمي وأنا من ذلك الكابوس الرهيب من المرآة. لقد أدركت حينئذ ما طرأ على أمي وعانت منه، انغلاقها على نفسها، وفقدانها الأمل، افتقاد الكلمات التي تصف تلك السلسلة المتصلة من المشاعر، والتي يظل الإنسان يقاسي منها حتى فقدان الأمل، وكل مرة يلح هاجس من أن شيئا سيخرج عليه فجأة، قافزا ومقتربا أكثر منه، هكذا وفي التو وهو لا يستطيع احتماله، ونحن نعرفه جيدا. عندها فكرت بأن الحل الوحيد يمكن أن تقوم فكرته على تغطية المرآة. سيكون ذلك مثل إقامة حائط لا يمكن اختراقه. حائط لينقذنا من... وقررنا تغطية المرآة بملاءة سرير. وحوالي الحادية عشرة ليلا قمت لأنفذ خطتنا". ويصف الابن انتظاره هو وأمه للموعد اليومي وأخذا يرقبا ما سيحدث بعد تغطية المرآة ويحكي الابن عن ذلك قائلا: "من تحت الملاءة التي غطينا بها المرآة، بدأت تتبدى هيئة مخلوقات لا شكل لها..كتل داكنة معجونة من طينة البشر، تتحرك وهي في حالة من الكرب، ثقيلة كما لو أنها تحاول بجهد لا طائل من ورائه أن تجتاز عالما ما أو حتى الزمن نفسه". وتنتهي القصة بقول الابن: "...وعندما بقينا بمفردنا، دخل في روعي، أننا كلانا نبكي في صمت، تلك الأشباح التي لا شكل لها، والمحبوسة، وكفاحها هذا الذي بلا أمل، وغير المجدي، هو نحن الذين نتمزق من الداخل " , كأن دابلا تريد أن تقول من القصة أن الأشباح هذه ما هي إلا تجسيد حي لمخاوفهم وإحباطاتهم . عذابات امرأة وحيدة! تتناول قصة "الآنسة خوليا" نظرة المجتمع لغير المتزوجة وتفسيراته لكل تصرف يصدر منها في إطار الشك والريبة والتفسير الخاطئ، وتركز القصة على قسوة المجتمع على السيدات الوحيدات. القصة تحكي عن عذابات امرأة وحيدة تحاصرها هلاوسها حول احتلال الفئران لبيتها حتى تجن تماما، تبرز القصة في البداية نشاط وكفاءة "الآنسة خوليا" في عملها، وأنها تحيا وحيدة في بيت أبويها الراحلين بعد أن تزوجت أختيها . تنقلب حياتها رأسا على عقب حين بدأت تسمع أثناء نومها ليلا جلبة غريبة كما لو أنها صادرة عن احتكاك أقدام صغيرة وهي تجري في حركة جريئة نشيطة. الأمر الذي أدى إلى حرمانها من النوم بشكل متواصل إلى ما يقرب من شهر. وأثر ذلك على مظهرها ونشاطها مما أدى لظهور كثير من الإشاعات حولها بعد أن كانت مثال التفاني والإخلاص وتروي القصة كيف أن خوليا سمعت في عملها فتاتين وهما تتحدثان في الممر بجوار السلم عنها: - هل دققت النظر في وجهها اليوم؟ - نعم. إنها في حالة سيئة جدا. - لا أعرف كيف أمكنها الحضور إلى العمل وهي بهذه الحالة، فحتى الطفل، يمكنه أن يلاحظ ويشك. - إذا أنتِ أيضا تظنين؟ - لم أكن أتصور أبدا أن الآنسة خوليا... - هذا ما يشجعني على القول بأن عليها أن تزور قديسة من القديسات. - بالنسبة لي فإن ما يؤلمني جدا، هو أن أراها، المسكينة بالفعل، وهي غير متمالكة نفسها حتى مع روحها. - واضح طبعا وبالذات في سنها... كانت الفئران كما تحكي لنا القصة تفسد على خوليا حياتها وحاولت مقاومتها والقضاء عليها بشتى الطرق ولكنها لم تستطع الأمر الذي زادها سوءا. وتنتهي القصة بأن خوليا عثرت على الفئران وأمسكت بهم وتصف القصة فرحتها حين تعثر عليهم لأن الجميع سيكف عن الشك بها وسيدركون عذابها..بكت من الفرحة والانفعال تصف القصة لنا حالها: "..صرخت..صرخت..يا لي من محظوظة أن أعثر عليهم..أي حظ هذا!..ابتسمت وانتحبت، واندفعت تصرخ، وتقهقه مع هذه العيون الحمراء اللامعة..واندفعت تصرخ..تصرخ ..تصرخ وعندما جاءت إليها "ميلا" أختها وهي تدعك عينيها وتتثاءب، وجدت خوليا تحتضن بعنف وشراسة، تلفيحتها الجميلة من فرو السمور".