تتساءل الدكتورة لوتس عبد الكريم فى كتابها الذى صدر فى القاهرة بداية هذا العام الذى أوشكت شمسه على المغيب معلنة مضى أيامه والمعنون "مصطفى محمود.. سؤال الوجود بين الدين والعلم والفلسفة": هل لابد أن تأتى المنية لينهض الناس بعدها ليذكروا من نسوه بضجة كبيرة وبكاء وكتابات كبيرة ومديح لا ينفد؟!!. نعم فى عالمنا العربى الإسلامى لابد أن يحدث هذا.. فمنذ رحيل الدكتور مصطفى محمود يوم السبت 31 أكتوبر 2009م والكتابات تتوالى، وقد عاش مصطفى محمود طيلة عقدين من الزمان لا يسأل عنه أحد وقد ملأ الدنيا وشغل الناس أكثر من أربعين عامًا.. ومن أفضل الحوارات التى قرأتها وعبرت بصدق عن فكر ورؤى الدكتور مصطفى محمود، ذلك الحوار الذى نشرته مجلة الحرس الوطنى السعودية فى ثمانينات القرن الميلادى الماضي، أى منذ ما يقرب من ربع قرن، وأجراه معه المفكر السعودى أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، ونشر فى عددين من تلك المجلة القيمة.. وضعت الدكتورة لوتس عبد الكريم كتابها ومصطفى محمود كان لا يزال طريح فراش مرضه منذ سنوات، لا يكتب ولا ينشر ولا يقابل أحدًا. فى البداية أهدت الدكتورة لوتس عبد الكريم الكتاب إليه قائلة :إلى أستاذى وصديقى الذى أضاء بفكره ظلام حيرتى وأشعل بإيمانه جذوة الأمل فى أرحب طريق إلى الله، إلى الدكتور مصطفى محمود. تقول الدكتورة لوتس عبد الكريم فى تقديمها للكتاب: طلب منى الكثيرون أن أكتب عن مصطفى محمود كتابًا ككل ما كتبت عن أصدقائى المقربين، ولكنه غير كل هؤلاء. إن ذكرياتى معهم ولون علاقتى بكل منهم غير مصطفى محمود. إن كتاباتى عن كل هؤلاء كانت انطباعات ومشاعر أساسها الاندماج الكلى والأحداث والعِشْرة والفهم الكثير والتأثر بمسيرتهم فى حياتى ودورهم فيها. فأنا أكتب بفطرة بالغة الصدق ولستُ محترفةَ كتابة. إنما أُسَجل مشاعرى دون دراسة أو نقد أو تحليل، وهنا أذكر له (مصطفى محمود) أنه قال لى ذات مرة (أنت يا لوتس أكثر واحدة عندك القدرة على فهم وتحليل الشخصية).. هذا ما قاله، وما لم أعرفه فى نفسي، ورغم ذلك فحين أقدمتُ على محاولة الكتابة عنه، شعرتُ للمرة الأولى بعجز شديد، فتوقفتُ تمامًا لمدة ليست قصيرة. لماذا؟ لأنه عملاق ليس كبقية من عرفت من عمالقة، عملاق فريد فى شخصه، فى خصاله، فى أدبه، فى تفكيره، فى عقليته، فى نظرته إلى الحياة وفلسفته، إنه من كبار المفكرين العرب فى عصرنا الحاضر، هو أصعب من كل هؤلاء العمالقة، أعجز تمامًا عن الوصول إلى عقله أو قلبه، رغم أن سعة هذا العقل سعة غير طبيعية وعمق هذا القلب عمق غير عادي. إنه عاقل جدًّا ومجنون جدًّا، وهو طيب جدًّا وقاسٍ جدًّا، وهو عاطفى أحيانًا وجامدٌ ومتحكم فى أحاسيسه أحيانًا كثيرة. وهو سَهْل وممتنع، وهو هادئ وثائر، وهو بسيط للغاية ثم مبهم وغامض أكثر المرات، وهو عميق ومدرك وأذكى الأذكياء، ثم يبدو غير ذلك مرات كثيرة. إنه إنسان لا يستطيع أن يفهمه إنسان، لكن إن ذلك الرائع العملاق المستعصى على فهم الأذكياء بفلسفته المحبوكة المحكمة وعلمه وعمق إدراكه. وفى إطار محاولة لرسم شخصيته تذكر د.لوتس عبد الكريم فى بداية كتابها أن مصطفى محمود دائمًا ما كان يحفظ المسافة بينه وبين أقرب الناس إليه. إنه يصفعك بنظرة ويربت كتفك بيد حانية. وتسرد الكاتبة تفاصيل تلك الصداقة الخاصة بمصطفى محمود وأسرته، مارَّة بزواجه وطلاقه، ومفهوم مصطفى محمود للزواج والمرأة بشكل عام، إذ كان يردد باستمرار: لن تحتمل زواجى أية امرأة. كما تتناول المؤلفة وجوه مصطفى محمود العديدة، ومنها: الفَنان، الصوفي، السياسي، الفيلسوف، المحب، العالِم، الأديب، إذ تراه شخصية نادرة لا تتكرر قائلة: هو رفيق مشوار ثقافى على مدى عشرين عامًا من العلم والمعرفة والفن والدين والأخلاق، أعاننى على كثير من الصعوبات فى حياتي. وتتناول علاقته بالرئيس المصرى الراحل أنور السادات الذى كان صديقًا حميمًا له ومقربًا منه. تقول المؤلفة: كانت علاقة الدكتور مصطفى محمود سيئة بالرئيس المصرى الراحل عبد الناصر، نظرًا للاختلاف الفكرى بينهما، وزادت العلاقة سوءًا بعد اتهام مصطفى محمود بالكفر فى نهاية الستينات بعد سلسلة من المقالات وصدور كتابه "الله والإنسان" الذى تمت مصادرته وتقديمه بعدها للمحاكمة التى طلبها الرئيس عبد الناصر بنفسه بناءً على تصريح الأزهر باعتبارها قضية كفر، وقد اكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب، لكن فى عهد السادات انقلبت الآية، فقد أبلغه إعجابه بالكتاب وطلب منه طبعهُ مرة أخرى، ولكنه استبدل به كتاب "حوار مع صديقى الملحد"، وتتوطد العلاقة بعدها بين الرجلين لدرجة أن السادات طلبه ليكلِّفه بمهام وزارة من الوزارات، فاعتذر الدكتور مصطفى، مبررًا ذلك بأنه فشل فى إدارة أصغر مؤسسة وهى زواجه فقد تزوج مرتين ولم ينجح زواجه. وفى فصل عنوانه "مصطفى محمود.. الشاعر" تقدِّم كشفًا أدبيًّا، إذْ تنشر قصيدة لمصطفى محمود عنوانها "السؤال"، مشيرة إلى أن مصطفى محمود كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقالة والسيناريو، ولم يُعرف عنه أنه كان شاعرًا، مستدركةً: غير أن كتابته السردية تحفل بالشعرية العالية، والحس الراقى فى كتابة الجملة، وهذا ما طبع كتابته بالعمق اللغوى والحفر الدائم للبحث عن لغة خاصة به. وقد أثبتت المؤلفة نص القصيدة فى كتابها، داعية إلى البحث فى تراث مصطفى محمود وهو كثير ومتنوع للكشف عن الشاعر. تقول الدكتورة لوتس: لكننا لا نعثر على كثير مما كتبه من شعر ربما لأنه مزق ما كتب أو رأى نفسه متحققًا فى فنون الكتابة الأخرى. وقد نشر مصطفى محمود قصيدة فى كتابه "السؤال الحائر"، وأسماها "السؤال". تقول القصيدة: يا صاحبى ما آخر الترحال وأين ما مضى من سالف الليال أين الصباح وأين رنة الضحك ذابت...؟ كأنها رسم على الماء أو نقش على الرمال كأنها لم تكن كأنها خيال أيقتل الناس بعضهم البعض على خيال على متاع كله زوال على مسلسل الأيام والليال فى شاشة الوهم ومرآة المحال إلهى يا خالق الوجد..من نكون من نحن..من همو..ومن أنا وما الذى يجرى أمامنا وما الزمان والوجود والفنا وما الخلق والأكوان والدُّنا ومن هناك..من هنا أصابنى البهت والجنون ما عدت أدري وما عاد يعبر المقال قالت الدكتورة لوتس فى مقالها الذى نشرته فى العدد 69 بمجلة الشموع التى تصدرها وتشرف عليها، والذى شكَّل نواة هذا الكتاب، أن حالة الدكتور مصطفى متدهورة جدًّا، وهو يعانى من آثار نزيف قديم فى المخ، ومنذ عام يعانى فقدان الذاكرة، حتى أنه أصبح يتذكر المقربين منه بصعوبة. وأضافت أنه يعيش وحيدًا فى شقته، تعاوده ابنته أمل التى تقيم فى نفس البناية لتوفر له متطلباته، ولا يستطيع الخروج حاليًا حتى إلى مسجده الشهير فى المهندسين ومشفاه الخيري. وأكدت الدكتور لوتس فى كتابها أن الدكتور مصطفى كان يقضى معظم يومه فى غرفة فوق جامع محمود يسميها التابوت، فقد كان الموت فى مخيلته دائمًا، وبعد أن ساءت حالته كثيرًا انتقل إلى شقته المواجهة للجامع ؛ فبعد إصابة مصطفى محمود بنزيف فى المخ وإجراء ثلاث عمليات جراحية أصيب بفقد فى الذاكرة ولم يعد يذكر أحدًا، والمؤسف أنه لم يعد يذكره أحد!! تؤكد الدكتورة لوتس على أن مصطفى محمود مسلم ملتزم متمسك بإسلامه ومؤدٍّ فرائضه، ورغم مرضه وما يعانيه من آلام الجسد لم يتوقف عن أداء تلك الفروض وعن التوجه المستمر بالدعاء إلى الله وسماع القرآن الكريم. ترى لوتس عبد الكريم أن من أشد الأزمات التى مرت على الدكتور مصطفى وربما كانت سببًا فى اعتزاله الحياة حدثت مع صدور كتابه "الشفاعة" عام 2000، وتتلخص فكرته فى أن الشفاعة التى سوف يشفع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته لا يمكن أن تكون على الصورة التى نعتقدها نحن المسلمين، إذ كان يرى –يرحمه الله – أن الشفاعة بهذه الصورة دعوة للتواكل وأنها تدفع المسلمين إلى الركون لوهم حصانة الشفاعة التى ستتحقق لنا لمجرد الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أثار الكتاب ردود أفعال واسعة، واتهم البعض مصطفى محمود بأنه منكر لوجود الشفاعة من أساسها، وتجاوزت الردود على الكتاب أربعة عشر كتابًا، من أهمها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر. وحاول الدكتور مصطفى الصمود والانتصار لفكره، خصوصًا أنه لم يقصد إساءة للدين الإسلامى الذى قضى جل عمره حاملًا راية الدفاع عنه، ودافع عن تصرفه بحرية الفكر والرد والاعتراف بالخطأ، إلا أن هذه الأزمة مع كبر سنه وضعف صحته أدت إلى اعتزاله الحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة إلا من مقالات بسيطة فى مجلة الشباب وجريدة الأخبار، ثم أصيب فى 2003 بجلطة فى المخ أثرت على الحركة والكلام، وعندما استعاد صحته قليلًا استمر فى عزلته. تؤكد المؤلفة أنه رغم المكانة الكبيرة للدكتور مصطفى محمود فى مسيرة الفكر المصرى والشهرة الواسعة التى نالها إلا أن عددًا قليلًا جدًّا من الكتب لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة هى التى تناولته بالدراسة وحظى كتاب واحد منها بإعجاب مصطفى محمود، وكان دائم الحديث عنه، وهو الكتاب الذى كتبه الراحل جلال العشرى عنه. وأحصت المؤلفة كتب الدكتور مصطفى محمود ب98 كتابًا فى شتى المجالات الروحية والدنيوية، تميزت بأسلوب عذب جميل فى الدعوة والقدرة على التقريب من الدين بأرق المحاولات وأرقى الكلمات، من خلال العلم والمنطق وفك رموز ما غمض على الآخرين فهمُه. يرسم كتاب الدكتورة لوتس صورة أخرى مختلفة لمصطفى محمود قد لا تتآلف كثيرًا مع فهمنا لهذا الرجل وما رسخ فى أذهاننا عنه، كما يتميز الكتاب أيضًا بإيراد المصادر والمنابع والخلفيات التى شكلت نظرته إلى الحياة والعلم والأدب.