رسالة من : أ.د. محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد ....
لا نهضة مع التنازع : حذرنا الله عز وجل من الفرقة والتنازع لخطورة ذلك على الأمة ومستقبلها ووحدتها يقول تعالى (وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال : 46، فلا سبيل إلى النهضة المنشودة إلا باجتماع الكلمة، تحت هدف واحد، فإنه لا نهضة مع التنازع، ولا نجاح مع التفرق،.فهل تقبل الأمة بتنازعها – بعد ثورات شعوبها على الطغيان وإزاحة الأنظمة البائدة – أن تفشل في تحقيق أهدافها ؟!، وهل ترضى الأمة بتفرقها – وقد عادت إليها عافيتها بإرادة شعوبها الحرة الأبية، أن تبدد قواها وتضيع جهودها، ويذهب دم شهدائها وجراحات أبنائها أدراج الرياح؟! . فالفشل قرين التنازع، والتنازع يصنع الفشل، ولذلك كان النداء الرباني لأبناء الأمة (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا) آل عمران : 103، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) فاطر : 43، فالأخوة بين من يحملون مسئولية النهضة، هي المشاركة في بناء صرح جديد من التفاهم والتشاور والوفاق والتعاون، لا يعرف الشقاق أو الافتراق أو التخاصم، ومن ثم فهو بعيد عن الفشل والوهن والجبن والاستكانة والضعف في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية والرياضية والفنية وغيرها من مجالات نهضة الأمة . كيف تتجاوز الأمة عقبة التنازع ؟ إن الاختلاف سنة كونية وفطرة فطر الله الناس عليها ولكنه لا ينبغي أن يكون سبباً من أسباب التنازع والفرقة، فعلينا توظيف في اختلاف الآراء والتوجهات والوسائل ليكون دافعاً ومثرياً للعمل لا مثبطاً ومفرقاً. إن الخلاف الذي يصل بدعاة النهضة وحملة رايتها إلى التفرق والتباغض والشحناء، سيدمر التعاون، ويزيل الألفة بين القلوب، ويدفعها إلى المكر والتربص ببعضها البعض، وهذا هو بداية الضعف والوهن، مما يُطمع المتربصين بهم، ويغريهم بالنيل منهم، ويشجعهم على الوقيعة بينهم ويجرؤهم على كرامتهم، واستلاب عزتهم، وتمزيق وحدتهم، وهذه عقوبة من الله بداياتها الجدل والاهتمام بالسفاسف وترك العظائم والبحث عن نقاط الاختلاف وليس الاتفاق، لذا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" وقال أيضا "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها". ولهذا فمهمة القلوب أن ترتبط في رابطة واحدة مع تعدد الآراء، بعيداً عن الهوى المطاع سواء في الأفكار والتصورات أو في الأعمال والتصرفات، وهذا ما أراده الإمام الشهيد حسن البنا في ندائه الدائم، وسعى إلى تحقيقه لكل المشاركين في النهضة، وجعل القلوب تردده في كل يوم حتى يكون واقعاً حيّاً ونابضاً في بناء الأوطان "اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك،وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك"، وبهذه التهيئة من الاجتماع والالتقاء والتوحد والتعاهد، يجب أن يكون شركاء النهضة وهم في طريقهم لتحقيق الآمال التي تنتظرها منهم الشعوب بعد أن استردت حريتها وسيادتها . ويأتي ذلك انطلاقاً من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية حملة النهضة، ففي حديث أبي موسى يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً – وشبك بين أصابعه –" متفق عليه، وعلى هذا نشر في بداية بناء الأمة شعار (المهاجرين والأنصار)، فأطلق صلى الله عليه وسلم على من يفرق هذا الانصهار في الجسد الواحد، قوله صلى الله عليه وسلم : "ما بال دعوى الجاهلية"، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة" رواه مسلم، بل حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما يسبب التنازع من الحسد والبغضاء والظن والغيبة والتخاصم والهجر، كما في حديث أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً" متفق عليه، مصداقاً لقوله تعالى : (ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : 105 . فهم الإسلام الصحيح يقضي على التنازع : إن فهم الإسلام وإدراك العقل له كنظام للحياة، وحل ودواء لمشاكلنا، هو الطريق للقضاء على أي بادرة للتنازع، فالله يحذرنا من مثل هذا الصنف الذين (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) الحشر : 14، فالقلوب اختلفت حال ضعف عقولهم عن الفهم الصحيح وإدراك الحقائق، ولذلك فمن أوجب واجبات الوقت اليوم علينا جميعاً : أن نبتعد عن الخلافات التي تؤجج الشقاق، ونستمد ثقافتنا في ظل الإسلام المستمد من الكتاب والسنة، وأن نؤثر مصلحة الأمة والوطن على مصالحنا الفردية والحزبية، وأن نأخذ بكل أسباب القوة أمام من يصرون على إضعافنا والهيمنة على مقدراتنا، وأن نسعى لتطهير البلاد من الفساد سواء في الإدارة أو في الأفكار -وهو ما يُطمع المتربصين بمقدرات الشعوب -، وأن نقوم بواجب الدعوة بالحسنى لتقوية الذات الشعبية وإزاحة الجهل بنشر العلم والوعي والبصيرة . وبذلك تستطيع الأمة أن تحرر أرضها واقتصادها، وتسترد سيادتها ورقيها عالمياً، وتمتلك شروط نهضتها العلمية والتقنية، وتنشر في ربوع العالم الأمن والسلام والاستقرار على قواعد من الحرية والعدالة والمساواة، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في لم شمل المجتمع، كل المجتمع، على البر والخير، وكان حريصا على وحدة الصف مجتمع مكة حتى قبل الإسلام، فعندما وجدهم يتنازعون ويختلفون على شرف حمل الحجر الأسعد ظهر حرصه جليا في الفكرة التي اقترحها عليهم بأن وضع الحجر على ثوب وجعل كل قيادات مكة تمثل في حمل طرف من أطراف الثوب، ومن العجيب أن كفار مكة الذين لا يؤمنون بالله عندما عرضت عليهم هذه الفكرة استجابوا لها حتى قبل أن يكون رسول الله صلى الله عليهم وسلم مبلغا هذه الرسالة عن ربه، أي أن كل القبائل كانت حريصة على لم الشمل إذا جاءتها الفرصة، وأن الفطرة السليمة التي يزيدها الإسلام نقاء أكثر حرصا على لم شمل الجميع، وكذلك أيضا قالها صلى الله عليه وسلم عندما تذكر حلف الفضول الذي اتفق فيه مع كل قيادات مكة قبل البعثة "إن حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفا اسمه حلف الفضول "تحالف كل قيادات مكة على نصرة أي مظلوم" لو دعيت به في الإسلام لأجبت". وأخيراً : أيها الإخوان عليكم تبعة عظيمة في التغلب على هذا العائق بما تملكون من قوة نفسية وإرادة وتصميم، وأذكركم بقول الإمام الشهيد حسن البنا "وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائماً للقوي السابق... وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها، وأن يكون رأب الصدع وجبر الكسر، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا، كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية. وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني. وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد: بين الحق والباطل وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى". وصلى الله على قائدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم والله أكبر ولله الحمد .