إن معنى العبادة هى غاية الوجود الإنسانى، وهى وظيفة الإنسان الأولى، وهى أوسع وأشمل من مجرد الشعائر.. وإن وظيفة الخلافة داخلة فى مدلول العبادة قطعا. إذن حقيقة العبادة تتمثل فى أمرين رئيسيين: الأمر الأول: هو استقرار معنى العبودية لله فى النفوس، أى استقرار الشعور، على أن هناك عبدا وربا، عبدا يعبد.. وربا يعبد.. وأن ليس وراء ذلك شىء وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار ليس فى هذا الوجود إلا عابد ومعبود، إلا رب واحد، والكل له عبيد. والأمر الثانى: هو التوجه إلى الله بكل حركة فى الضمير وكل حركة فى الجوارح وكل حركة فى الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله. بهذا وذاك يتحقق معنى العبادة.. قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ( الفاتحة-5) والعبادة هى العبودية المطلقة، معنى وحقيقة وكل ما يأتى به المسلم فى طاعة الله فهو عبادة. لذا جاءت جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) كلية اعتقادية.. فلا عبادة إلالله.. ولا استعانة إلا بالله. وهذه الكلية تعن ميلاد التحرر البشرى الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية الأوضاع.. وإذا كان الله وحده هو الذى يعبد، والله وحده هو الذى يستعان به، فقد تخلص العبد من استذلال النظم، والأوضاع، والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير، والأوهام والخرافات. أما العبادة بالمعنى الخاص: فهى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.. وهى نوع من التربية.. ففرائض الإسلام تخاطب كل الجوانب فى الإنسانية. وتفى بكل الحاجات وتصحح كل الاتجاهات. لكن هذا المعنى الاصطلاحى هو المعنى الخاص للعبادة، أما معناها العام فهو أشمل من ذلك بكثير، إذ يعنى كل قول أو فعل للمسلم اتجهت نيته فيه إلى طاعة لله تعالى وامتثالا لأمره. وهذا يدخل فى معنى العبادة كل عمل دنيوى قصد فيه معنى طاعة الله تعالى، وإن كان فيه حفظ النفس والرغبة وإن كان فيه قضاء للشهوة. ومن هنا كان وضع الشهوة فى حلال صدقة، وعملا من أعمال إثابة المسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفى بضع أحكم صدقة: قالوا يا رسول الله أياتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟.. قال: أرأيتم لو وضعها فى حرام، أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجر). وأيضا ما ورى من حديث (تبسمك فى وجه أخيك لك به صدقة) وروى الترمذى عن أبى ذر رضى الله عنه بزيادة (وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك للرجل فى أرض الضلال لك به صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والأذى عن الطرق لك صدقة، وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة). وحينئذ تأخذ أعمال المسلم وأقواله طابع العبادة ولو كانت محض أعمال دنيوية كالأكل والشرب والسعى فى طلب الرزق لإعفاف النفس والغير ما دامت نية الطاعة وراء هذا كله. بل إن الامتناع عن فعل المحرمات يدخل فى معنى العبادة أيضا إذا كانت نية الطاعة وراءه. ومن ثم جاز أن يستشفع الإنسان بهذا الامتناع لتفريج الكربات، كما فى حديث النفر الثلاثة بامتناعه عن الزنا بابنة عمه التى كان يحبها أشد الحب لما ناشدته الله فامتنع، طاعة له سبحانه وابتغاء مرضاته. وهناك تكون حياة المسلم كلها تحقيقا لمعنى العبادة بمفهومها الشامل وهوبعض ما يفهم من قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ( الذاريات-56). وحين نكتب عن العبادة بمفهومها الاصطلاحى الخاص، ينبغى ألا يغيب عن ذهننا: أن الحياة الصحيحة للمسلم ينبغى أن يتحقق فى كل وقت منها معنى (العبادة) بمفهومها الشامل لكل نشاط أو امتناع عن عمل أو قول. وحين نضع فى ذهننا هذا المعنى الشامل تسقط على الفور كل دعوى باطلة لفصل جانب من الحياة عن الدين والعبادة. فإذا جاز فى عقيدة أخرى أن يكون هناك ما لله وما لقيصر فإن ما فى الحياة كلها فى الإسلام ينبغى أن يكون لله تعالى وحده دون شريك أو شبه شريك. ومن وراء كل ذلك.. نجد أن العبادات فى الإسلام تدعو إلى الوحدة والجماعة، وهى أساس لوحدة التفكير، ووحدة المفاهيم الأساسية فى الحياة.. بل ووحدة القيم، والمقاييس الخلقية، والنظر إلى الخير، والشر، والفضائل، والرذائل، وقواعد السلوك. والعبادات فى الإسلام تنتهى إلى نتيجتين: أولاهما: الاتجاه إلى تربية الوجدان الدينى الذى يجعل المؤمن بالإسلام مؤتلفا مع غيره، ليتكون من هذا الائتلاف مجتمع إنسانى متواد متحاب. والثانية: أن غاية العبادات فى الإسلام ليست مجرد التقوى السلبية، لأنها تتجه إلى النفع الإنسانى العام، وإلى إيجاد مجتمع متحاب، غير متباغض ولا متنازع. فعلاقة الإخلاص لله فيها أن تكون مطهرة للقلب قاضية على الشر فيه مؤلفة بينه وبين الناس من غير مغالاة. ويوم أن يدرك المسلمون حقيقة العبادة فى الإسلام. ويوم أن يقتنع المسلمون بأن الإسلام هو المنهج الأمثل. ويوم أن تكون الفرائض الإسلامية عملا بناء.. لا حركات تؤدى. ويوم أن تكون لا إله إلا الله المنطلق الوحيد للمسلمين. يومها وبكل تأكيد سوف يتحقق للمسلمين بإذن الله تعالى نجاح رائع فى كل نواحى الحياة.