لجنة القيادات بجامعة بنها الأهلية تستقبل المرشحين لرئاسة الجامعة ونوابها    ضبط 34 قضية سلاح و6 قضايا إتجار بالمخدرات في أسيوط    الأزهر للفتوى يوضح فضل حج بيت الله الحرام    اعرف جدول المراجعات المجانية للثانوية العامة في الفيوم    أسعار الدواجن والبيض اليوم الخميس 23-5-2024 في المنيا    وزير المالية: حشد كل قدرات الدولة للسيطرة على التضخم ودفع النشاط الاقتصادي    «عاشور» يشارك في المنتدى العالمي للتعليم بلندن بحضور 122 من وزراء الدول    بمشاركة زعماء وقادة.. ملايين الإيرانيين يلقون نظرة الوداع على رئيسي (فيديو)    «قانونية مستقبل وطن» ترد على CNN: مصر ستواصل دعم القضية الفلسطينية    بعد الاعتراف بفلسطين.. الاحتلال الإسرائيلي يوجه رسالة توبيخ للنرويج وأيرلندا وإسبانيا    هيئة البث الإسرائيلية: حكومة الحرب ستدعم مقترحا جديدا لمفاوضات غزة    ميكالي: حلم الميدالية الأولمبية مع منتخب مصر يراودني    رومارينهو يودع جماهير اتحاد جدة في التشكيلة المتوقعة لمواجهة ضمك    غيابات بالجملة في قائمة الأهلي قبل مواجهة الترجي    وصول جثمان شقيق هاني أبوريدة إلى جامع السلطان حسين بمصر الجديدة "صور"    وزير الدفاع: مصر تقوم بدور مهم وفعال لمساندة القضية الفلسطينية على مدار التاريخ    النيابة تطلب التحريات حول دهس سائق لشخصين في النزهة    وكيل «تعليم الأقصر» يوجه رسالة هامة لطلاب الإعدادية    تجديد حبس سائق ميكروباص معدية أبو غالب وعاملين بتهمة قتل 17 فتاة بالخطأ    مواعيد قطارات السكك الحديدية على خط «السد العالي - القاهرة»    تزامنا مع رفعها.. كيف كانت تُكسى الكعبة المشرفة قبل الإسلام؟    اليوم.. كاظم الساهر يحيي حفلا غنائيا في دبي    أول تعليق من مي سليم بعد إصابتها في حادث سير: «كنت هموت»    أميرة هاني تكشف سابقة تعرضت لها من سائق «أوبر»    بعد الأحداث الأخيرة.. وزارة الهجرة تطلق رابط تسجيل للطلاب المصريين في قيرغيزستان    هل يجوز شرعا التضحية بالطيور.. دار الإفتاء تجيب    مستشار الرئيس للصحة: مصر تمتلك مراكز لتجميع البلازما بمواصفات عالمية    «حياة كريمة» تطلق قوافل طبية مجانية في الشرقية والمنيا    «صحة المنيا»: تقديم الخدمات العلاجية ل7 آلاف مواطن خلال شهر    إصابة طفلين فلسطينيين برصاص الاحتلال شرق مدينة قلقيلية    توريد 197 ألف طن قمح إلى شون وصوامع كفر الشيخ منذ بداية الموسم    تعليم القاهرة تعلن تفاصيل التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الأبتدائي للعام الدراسي المقبل    وزير الري يلتقي مدير عام اليونسكو على هامش فعاليات المنتدى العالمي العاشر للمياه    النائب محمد المنزلاوي: دعم الحكومة الصناعات الغذائية يضاعف صادراتها عالميا    "شوف جمال بلدك".. النقل تعلن تركيب قضبان الخط الأول للقطار السريع - فيديو    صباح الكورة.. صدمة في الزمالك ودور ممدوح عباس في الأزمة الكبرى.. لبيب يكشف موقفه من ضم حجازي والشناوي يتدخل لحل أزمة نجم الأهلي وحسام حسن    مسلسل البيت بيتي 2.. هل تشير نهاية الحلقات لتحضير جزء ثالث؟    عضو مجلس الزمالك: نعمل على حل أزمة بوطيب قبل انتقالات الصيف    في الجول يكشف تفاصيل إصابة عبد المنعم وهاني بتدريبات الأهلي قبل مواجهة الترجي    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    23 مايو 2024.. ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في بداية التعاملات    استطلاع: 70% من الإسرائيليين يؤيدون انتخابات برلمانية مبكرة    غدًا.. "العدل الدولية" تصدر حكمها بشأن قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيي طابا وسانت كاترين يجنوب سيناء طبقا للمعايير القومية المعترف بها دوليا    آخر موعد للتقديم في مسابقة التربية والتعليم 2024 (الرابط والتفاصيل)    «المنيا» ضمن أفضل الجامعات في تصنيف «التايمز العالمي» للجامعات الناشئة 2024    «الصحة»: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشري HIV    رئيس جهاز مدينة 15مايو يتفقد المشروعات الجارية.. ويجتمع بمسئولي الجهاز    مطران الكنيسة اللاتينية بمصر يحتفل بعيد القديسة ريتا في الإسكندرية    أول تعليق من دانا حمدان على حادث شقيقتها مي سليم.. ماذا قالت؟    نشرة مرور "الفجر ".. انتظام حركة المرور بميادين القاهرة والجيزة    اليوم.. النقض تنظر طعن المتهمين بقضية ولاية السودان    ل برج الجوزاء والميزان والدلو.. مفارقة كوكبية تؤثر على حظ الأبراج الهوائية في هذا التوقيت    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    أمين الفتوى ينفعل على زوج يحب سيدة متزوجة: ارتكب أكثر من ذنب    استشهاد 8 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على وسط غزة    «دول شاهدين».. «تريزيجيه» يكشف سبب رفضه طلب «أبوتريكة»    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموقف النقدي من "اليهودية"
نشر في مصر الجديدة يوم 19 - 06 - 2010

ان السلاح الفكري والعقائدي، هو اهم سلاح تتسلح به الحركة الوطنية والحركات النضالية الجماهيرية. لان المسألة السياسية تتبدل وتتذبذب، ولكن المسألة الفكرية العقائدية تمتاز بالثبات التاريخي وبقوة الدحض الاكبر للمقولات والبنيان الفكري للاعداء.
واذا طرح بيننا السؤال عن الصهيونية واسرائيل، لكان هناك شبه اجماع على الموقف السلبي منهما، كظاهرتين شوفينيتين استعماريتين اغتصابيتين عدوانيتين.
اما اذا طرحنا السؤال عن اليهودية (المرجعية الدينية الاخلاقية الايديولوجية "القومية"، الاساسية لليهودية) يبدأ التردد والاختلاف في الجانب العربي. ومن هذا التردد والاختلاف ينشأ:
اولا النظرة التقديسية للدين اليهودي، والخشية من تناوله (في ذاته) والاكتفاء بتناول بعض الهوامش الجانبية، الناشئة عن مسلك اليهود لا جوهر اليهودية.
وثانيا تعميم وترسيخ الخطأ الشائع بأن الدين اليهودي "يشترك" مع الدين المسيحي والدين الاسلامي في ان الاديان الثلاثة هي اديان سماوية توحيدية يجمعها اصل واحد.
وهذا ما يجعل المواجهة الثقافية الفكرية بيننا وبين اليهودية ضعيفة وغير جذرية.
من هنا ضرورة تناول نشوء الظاهرة "اليهودية" ، من وجهة نظر علم الاجتماع او السوسيولوجيا، في اتصال ولكن بدون تماه مع الدين والفلسفة (ومن ضمنها الداروينية الاجتماعية، التي تستند اليها العنصرية).
XXX
ان كل قنوات النقد "العربي" الموجه الى اليهودية قد تمحورت حول الاشكال التالية:
1 النقد "القومي": عبرانيون، لاعبرانيون، اسرائيليون، لا اسرائيليون، وما اشبه. ويذهب البعض الى حك دماغه حتى لا يبقى فيه دماغ، بحثا عن القبيلة الثالثة عشرة الضائعة، من اسباط اليهود. ولست ادري "ما اهمية" اذا كانت عصابة الغزاة يهود اسرائيل تتألف من عبرانيين حقيقيين ام مزيفين، ام خليط من الفئتين واكثر؛
2 النقد "الديني": ويتلبس هذا النقد اشكالا مختلفة، ايمانية واخلاقية وحقوقية، تستند كلها او جلها الى المفهومين "المسيحي الانجيلي" و"الاسلامي القرآني"، للوجود والكون والمجتمع و"الدنيا" و"الآخرة". ويتميز هذا النقد بشكل خاص ب "التسامح غير المتسامح" المسيحي مع اليهود، بانتظار ان يتمسحنوا قبل او بعد المجيء الثاني للمسيح (اهلا وسهلا)، كما يتميز ب "التشدد غير المتشدد" الاسلامي مع اليهود، بانتظار ان يتبنوا "الدين الحق" الذي هو "الاسلام"، لانه طالما ان اليهود يؤمنون مظهريا باله واحد احد هو "يهوه" (علما انه الههم وحدهم)، ينشأ التباس بينه وبين الله (في المفهومين المسيحي والاسلامي. وعن هذ الالتباس ينشأ امل في ان يتبنى اليهود يوما ما "الدين الحق" لان "الدين عند الله هو الاسلام"؛ وتبقى حينذاك مسألة "تقنية تاريخية" تحتاج الى حل وهي: هل سيتمسحن اليهود او يتنصرون، اولا، ثم يؤسلم اليهود والنصارى معا؟ ام سيؤسلم اليهود، ثم يتمسحنون او يتنصرون مع جميع المسلمين الذين هم ايضا ينتظرون المجيء الثاني للسيد المسيح، بعد حدوث "علامات واشراط الساعة" وظهور المسيح الاعور الدجال والقضاء عليه؟
3 النقد الفلسفي، "اللاديني" او ما يسمى " العلماني": فهذا النقد يتمحور حول الخلاف الفكري القديم (الغيبي الترابي، الديني الفلسفي، المثالي او المادي، الذاتي او الموضوعي)، في فهم الوجود والكون والخليقة ونواميس الطبيعة والمجتمع. ويتسلح الدينيون بالمفاهيم الدينية التقليدية والمجددة، التي تجد لها ارضية شعبية واسعة، وعليها تنبني امكانية التضليل الجماهيري واستغلال الايمان الديني الصادق لاجل المآرب والمصالح السلطوية للطبقات الحاكمة، بما فيها السلطات الاستعمارية ذاتها. ووجود اسرائيل هو اكبر خدعة قومية دينية مركبة؛ حيث يتعاون الصهيونيون (العلمانيون) اليهود مع الدينيين اليهود في تفسير وتبرير وجود اسرائيل واستعمار فلسطين ومعاداة العرب. ويتسلح اللادينيون بالفلسفة والعلوم (الكونية والتطبيقية). ولكن الدينيين يعودون فيعترفون بأهمية العلم، ويتحايلون لاضفاء طابع ديني على العلم، باعتبار ان كل شيء هو "من عند الله" وب"مشيئة الله" و"ان العلم كله هو عند الله ومن عند الله"؛ مع انهم يعجزون اخيرا عن الاجابة: لماذا المجتمعات الاكثر كفرا والحادا وابتعادا عن الدين هي المجتمعات الاكثر تقدما حضاريا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا وتنمويا، والمجتمعات الاكثر تمسكا بالدين هي المجتمعات الاكثر تخلفا؛ والدينيون واللادينيون الصهيونيون يعجزون معا عن الاجابة: لماذا نشأوا كقومية عنصرية معادية للعرب؛ او لماذا اراد الله (يهواهم) ان ينشأوا كذلك؟ وهم يجيبون فقط باتهام العرب بالعدوان، او اتهامهم بالكفر. وهنا نأتي الى ظاهرة التكفير المتبادل بين الاديان، التي لا تخدم بشيء في فهم الخصوصيات السوسيولوجية للظاهرة "اليهودية".
واللادينيون ("العلمانيون"!) العرب يغامرون منذ اللحظة الاولى بخسارة معركتهم ضد اليهودية والصهيونية واسرائيل، حينما يواجهونها من المنطلق الفلسفي العلماني (خصوصا: التقدمي واليساري وما اشبه)، لانهم: اولا، لا يشخصون اليهودية بحد ذاتها، بل يشخصون احد تمظهراتها السطحية، وهو التمظهر الديني، او التمظهر "الاتني" او "القوموي". وحينما يتم الاعتراف باسرائيل، ينبغي اوتوماتيكيا الاعتراف بالصهيونية. والصهيونية على استعداد للاعتراف بالعلمانية، وبتيني العلمانية 99%، طالما ان العلمانية تعترف باسرائيل وباليهودية.
وثانيا: لانهم اي العلمانيين حينما يواجهون اليهودية والصهيونية واسرائيل من المنطلق الفلسفي العلماني، فإنهم يضعون اليهودية (بصفتها الدينية) في معسكر واحد مع جميع الاديان الاخرى، ومن ثم مع جميع شعوب العالم الاخرى، لأن اغلبية الشعوب هي شعوب متدينة، واخيرا يضعونها في معسكر واحد مع اغلبية الشعوب العربية ذاتها، لانها هي ايضا شعوب متدينة؛
4 النقد "السياسي"، الذي يمثل تبعا لمختلف القوى خلطات مختلفة من اشكال النقد سالفة الذكر، ممزوجة بردود الفعل على السلوكيات العدوانية والاجرامية الاسرائيلية الصهيونية الامبريالية. وهذا يعني الشيء نفسه، اي توجيه النقد نحو تمظهرات اليهودية، وليس نحو جوهرها.
ولكي نبسط فكرتنا نقدم المثال التالي: نعيش في قرية شرقية نفترض انها آمنة؛ يأتي لص وقاطع طريق هو (افتراضا) اوروبي او اميركي و(افتراضا ايضا) من اصل يهودي، ويقطن قرب القرية، ويبدأ يمارس "نشاطه الخلاق" على ابناء القرية، الذين يضجون به؛ ويذهبون ليقدموا شكوى ضده للقضاء؛ فبماذا سيتهمونه؟ انه اوروبي؛ او يحمل الجنسية الاميركية؛ او يهودي؟
ان كل هذه الاتهامات، وان كانت صحيحة، لا علاقة لها بالموضوع الجوهري؛ وهي انه لص وقاطع طريق؛ يسرق اولا بيضة، ثم دجاجة ليسكن جوعه؛ ثم يكمن لاحدهم ويقتله ويسرق نقوده؛ ثم يتسلل الى احد البيوت ويقتل اصحابه ويحتله بالقوة ويدعي انه ورثه من جده ابرهيم او يعقوب او اسرائيل، الذي بدوره حصل عليه هبة او مكافأة من الهه "يهوه" (مالك القرية ومن وما عليها)؛
واذا كان سيصرخ في المحكمة محتجا بأنه يتم اتهامه زورا لانه "يهودي" او "عبراني" او "مؤمن توحيدي"، او لانه اوروبي او اميركي او ما اشبه؛ فإن الرد الصحيح عليه هو: انه لص وقاطع طريق، وانه يستخدم هويته الاوروبية او الاميركية او هويته الدينية والاتنية القديمة (اي "يهوديته" او "عبرانيته او "ساميته"الخ.) كقناع للصوصيته.
هذا هو جوهر المسألة في مواجهتنا ل"يهودية" اسرائيل، و"اليهودية" بشكل عام:
ففي ظروف تقسيم العمل الاجتماعي، وبناء على هذا التقسيم على نطاق عالمي، ظهر المجتمع الطبقي، وظهرت مختلف المهن ومختلف الاتنيات والقوميات والدول، وظهرت بلدان وشعوب تمتلك الخامات وبلدان وشعوب تمتلك الصناعة والتكنولوجيا المتطورة. وبناء على هذا التقسيم ذاته ظهرت طبقات استغلالية وطبقات كادحة؛ وظهرت شعوب غنية وشعوب فقيرة، وذلك ضمن دائرة الانتاج. ولكن بناء على هذا التقسيم ايضا، ظهرت فئات طفيلية انفصلت عن الانتاج، وتحولت الى لصوص ونصابين وقتلة داخل كل مجتمع؛ كما ظهرت فئات لصوصية ونهب وسلب واغتصاب وقتل وعدوان وغزو على هامش مختلف الامم والقوميات والاتنيات.
وفي مسار تاريخي معين، ظهرت "اليهودية" في اطار الفئات الطفيلية الهامشية، وبالتدريج تحولت الى الفئة الاجتماعية الاتنية الدينية القومية، المهمشة، النموذجية كتعبير، وكغطاء وتبرير ديني للصوصية والسلب والنهب والغزو والاستعمار.
ان غالبية الفئات التي تعطي الوجود الانساني مفهوما دينيا، او مفهوما فلسفيا اخلاقيا تنفي الانقسام الطبقي والصراع الطبقي في المجتمع. ولكن العلم الاقتصادي والاجتماعي والتجربة التاريخية اكدت وتؤكد اكثر فأكثر الانقسام الطبقي والصراع الطبقي في المجتمع.
وبالقياس نفسه فإن العلوم الاقتصادية والسوسيولوجية والتجربة التاريخية، مثلما تؤكد ظهور المجتمعات الطبقية في الاطار الوطني والقومي وفي النطاق العالمي، وظهور الظاهرة الاستعمارية والامبريالية ك"تطوير" وكاختراق لها (transnationalism, globalization)، فإنها تؤكد ايضا ظهور بعض الفئات الطفيلية المهمشة. والفئة "اليهودية" هي الحالة "النموذجية" "الارقى" لهذه الفئات. ومثلما تبلورت الفئات (الاتنيات، القوميات) الاخرى في اديان، فإن الفئة "اليهودية" المهمشة تبلورت ايضا في "دين" خاص، الا انه في الجوهر والاساس دين مناقض جورهيا للاديان الاخرى، وليس مزاحم لها (على ارضية اساسية واحدة).
فاذا كنا نحترم الحريات السياسية والقومية مثلا، فهذا لا يعني ان نؤيد، او ان نقف على الحياد، حيال قيام دولة ما او قومية ما بالعدوان على الآخرين واستعمارهم. والشيء ذاته يقال حيال ما يسمى الديانة اليهودية؛ فإن احترام الاديان والحريات الدينية، لا يوجب علينا الوقوف على الحياد حيال ديانة وجدت لتبرير الاستغلال والسلب والنهب والاحتكار والاستعمار. بل يتوجب الرفض المسبق لهذه الديانة، ودعوة "ابنائها" انفسهم للتخلي عنها حفاظا عليهم وعلى انسانيتهم.
وأنا، حينما ادعو الى نقد، ونقض "اليهودية"، فإنني ادعو الى نقد ونقض "اليهودية" بحد ذاتها، اي نزعة وفلسفة ودين الاستغلال والقتل والسلب واللصوصية والاستعمار والامبريالية؛ "المقطرة" و"المصفاة" نظريا في "اليهودية"، وليس فقط العبرانوية، او الديانة والمعتقدات الدينية "اليهودية"، ولا حتى الصهيونية ك"عقيدة" سياسية (قومية دينية) مظهرية مزيفة؛اي انني استهدف "جوهر" اليهودية، الذي يعني: قطع الطرق والاستغلال واللصوصية والاحتيال والنهب والسلب والاستعمار، وكل ما يرتبط بالاستحواز (بالسخرة او بالحيلة او بالاكراه او بالتعذيب او بالقتل وبكل اشكال ما نسميه الظلم والاستغلال) على املاك ومجهودات الغير، ربطا بظهور الملكية الخاصة وتقسيم العمل والتجارة والنقود والرأسمال؛ كتركيبة دنيا، وظهور العشائر والاتنيات والاديان والقوميات والدول، كتركيبة عليا، "فوق"، وفي تمازج عضوي مع التركيبة الاولى.
في النصف الاول من القرن الماضي ظهرت على المسرح الاوروبي والدولي ظاهرتان "اتنيتان قوميتان" عدوانيتان لصوصيتان اجراميتان هما: النازية والصهيونية، اللتان ارتبط بهما التاريخ العالمي الى اليوم. وقد غرق العالم المتحضر كله في تفسير، تشريح وشرح هاتين الظاهرتين. والى جانب انهار الدماء، اندلقت كل الوان التفكيرالاتني والديني على مساحة العالم. ولكن بدلا من توضيح وتقريب فهم تينك الظاهرتين، فقد جرى طمسهما اكثر وتبعيد فهمهما. اذ ان الجهد العالمي لتشريح وشرح هاتين الظاهرتين انصب على "جرمنة" او "ألمنة" النازية، وعلى "اسرلة" (نسبة لبني اسرائيل، واخيرا نسبة لاسرائيل) و"عبرنة" و"تهويد" الصهيونية. واخيرا طلع جهابذة الفكر الاستعماري الغربي بمفهوم "السامية"، وضده "اللاسامية"، التي قد تعني شيئا في اوروبا ولكنها لا تعني شيئا في اسيا.
ولكن الواقع انه لا الجينات العضوية او المكونات السياسية للجرماني او الالماني انتجت النازية، ولا الجينات العضوية او المكونات السياسية لليهودي انتجت "اليهودية" و"نسختها" او "قميصها" الاخيرة: الصهيونية. فهاتان الظاهرتان هما وليدتان توأمان لظاهرة اكبر واعم واشمل، عبرت عن نفسها بالنازية في الظروف الالمانية، وبالصهيونية في الظروف العبرانية اليهودية. وهذه الظاهرة الاكبر والاعم والاشمل هي ظاهرة اللصوصية الاستعمارية العنصرية، التي اعلنت عن نفسها، اول ما اعلنت، والتي افتتح بها القرن العشرين، في المذابح الوحشية التركية "الطورانية الاسلامية" (بتحريض اساسي ودعم ضمني ومباشر من الغرب "المسيحي") ضد الارمن وجميع مسيحيي الشرق.
والظاهرة الام الاساسية، اي ظاهرة اللصوصية الاستعمارية العنصرية لا تزال توجد الى اليوم، وقد اتخذت شكلا موحدا (غربيا شرقيا) هذه المرة، وهي تتمثل في التحالف الستراتيجي الانغلو/ساكسوني اليهودي، او الاميركي الصهيوني، او الاميركي الاسرائيلي. وقد تم اخفاء حقيقة النزاع النازي الصهيوني (اليهودي)، وحقيقة الطبيعة الاصلية للنازية والصهيونية، لاجل اخفاء وجود الظاهرة اللصوصية الاستعمارية العنصرية التي لا تزال مسيطرة على الغرب.
ان النزعة اللصوصية الاستعمارية العنصرية، التي هي روح وجوهر "اليهودية" منذ ما وجدت، هي في الوقت نفسه روح وجوهر ومحور التطلعات والعلاقات الغربية بالشرق، منذ الحروب البونية وهملقار وهنيبعل برقة وروما، ثم بعد تدمير قرطاجة وبيع بقية اهلها عبيدا الاضطهاد الوحشي الذي سلط على الشعوب التي تشكلت منها فيما بعد القومية العربية، وهو الاضطهاد الذي اتخذ لمئات السنين شكل الاضطهاد الفظيع ضد المسيحية الشرقية واليهود الفقراء، والذي استمر حتى ظهور الاسلام؛ ثم الحملات الصليبية؛ ثم تسليط سيوف وخوازيق وسياط خانات التتار وسلاطين بني عثمان على رقاب العرب؛ ثم حركة القرصنة (التي كانت احد اهم اشكال التكديس الاولي للرأسمال والثورة الصناعية في اوروبا) على امتداد الشواطئ الغربية العربية الاسلامية؛ ثم الاستعمار التقليدي لبلدان الشرق؛ وصولا الى غزو فلسطين والعراق وافغانستان اليوم، وتحويل افغانستان (بدون اي حياء) الى مزرعة خشخاش باشراف مباشر من الادارة الاميركية وبحماية الجيش الرسمي الاميركي.
ولا تزال النزعة اللصوصية الاستعمارية العنصرية هي محور وجوهر كل علاقة غربية مع الشرق. ومن لا يستطيع ان يفهم حقا وبصدق هذه النقطة المفصلية بالذات، فلا يستطيع ان يفهم شيئا من مجريات التاريخ العالمي.
ومن الملفت للنظر، وعبر التجربة التاريخية كلها، ان النزعة اللصوصية الاستعمارية اليهودية (المؤدلجة دينيا، مما يسميه البعض: سماويا والهيا)، وبالرغم من اصولها الشرقية، فإنها اكثر تجذرا وتعصبا وتطرفا في لصوصيتها واستعماريتها واجراميتها، من النزعة الغربية ذاتها. والتاريخ يعيد نفسه بصورة مأساوية، واكثر مأساوية، وبمزيد من المأساوية. فحينما خير الحاكم الروماني لفلسطين، "اليهود"، بين ان يطلق من السجن اللص باراباس او السيد المسيح، صاحوا: باراباس. وحينما تردد بيلاطس البنطي في عملية صلب المسيح، وغسل يديه قائلا: "انا بريء من دم هذا الصديق"، صاح "اليهود": "ليكن دمه علينا وعلى ذريتنا". وفي التاريخ القريب، حينما سقط الاستعمار التقليدي في اسيا وافريقيا، في اعقاب سقوط النازية في الحرب العالمية الثانية، قامت اسرائيل، لتدشن عهدا جديدا من الغزو والاستعمار والتصادم المصيري بين الغرب الامبريالي والشرق العربي الاسلامي وشعوب العالم قاطبة. والان، حينما تضغط جميع دول العالم على اسرائيل للقبول بخريطة طريق "الحل السلمي الموهوم" للنزاع الاسرائيلي العربي، فإن اسرائيل تمزق تلك الخريطة وتلقيها حتى بوجه اصدقائها التاريخيين كتركيا وغيرها.
السبب: هي النقطة التي اشرنا اليها آنفا، وهي ان اسرائيل لا تستطيع ان تتخلى عن سياسة الغزو والاستعمار واللصوصية والقرصنة والقتل والاجرام. فهذا هو جوهر وجود "اليهودية" والصهيونية واسرائيل (بوصفها الحالة النموذجية للتمييز بين البشر واستغلال واضطهاد ونهب وسلب الاقلية الاجرامية للاكثرية العاملة والمسالمة والغافلة). فحينما تكف اسرائيل عن الغزو والاستعمار، فإن كل عفش "اليهودية" والصهيونية واسرائيل يكف عن الوجود.
والامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية تحاولان ان تطمسا بالضبط هذه النقطة، وان تملآ الدنيا ضجيجا وصخبا حول "مكافحة الارهاب" و"صراع الحضارات" وضده "حوار الحضارات" و"حوار الاديان"، الذي لا يقصد به سوى ذر الرماد في العيون العشواء او العيون السليمة على السواء.
واذا كانت مصلحة الغرب الاستعماري العنصري، الامبريالي الصهيوني، تكمن في ان يطمس هذه النقطة بأي شكل كان؛ فإن العجب العجاب يكمن في السؤال:
ما هي مصلحة بعض العرب (والاكراد، وغيرهم) حكاما وغير حكام، دينيين و"علمانيين"، في طمس هذه النقطة بالنسبة لليهود، الذين لا يمكن ان يوجدوا ك"ديانة"، وك"قومية" او "امة"، الا بالقضاء التام على وجود الامة العربية، معنويا وماديا،
والا باستعباد كل شعوب الشرق قاطبة؟
* كاتب لبناني مستقل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.