كلما هاجمنى الاكتئاب العام.. هربت إلى الاكتئاب الخاص وأواصل الهروب من الاثنين لأبحث عن نكتة.. وأهرب من النكتة إلى القلم.. إليكم.. وبتأملى لنفسى وجدت أننى أحد الجينات المكونة لمصر- شرف التكوين- فلذت بإله الطب النفسى الذى أشعر أمامه بأننى كتاب صفحاته مفتوحة وحروفه مقروءة حرفاً حرفاً.. هربت إلى الدكتور أحمد عكاشة ذلك الذى يحمل جينات العبقرية المصرية ويتمسك بها بعلمه.. هربت إليه بسؤال يؤرقنى: (هل للبلاد كما للبشر نفسية؟).. كان تساؤلى أساسه أننى وجدت كل من حولى يعانى من الاكتئاب ونحن شعب مرح يعيش على (لاقينى ولا تغدينى) ونكتة توديه ونكتة تجيبه.. أصبح الضحك مجرد قهقهات كأنها بالون ينفجر.. ولا شىء ويعود الاكتئاب يلف النفس، لجأت للرجل الضرورة الذى يمكن أن يجعل التساؤل الذى يطوينا جميعاً مشروحاً مفتوحاً ربما أعادنا الشرح إلى الشخصية المصرية التى تغيرت كيمياؤها بلا جدال. سألت الدكتور أحمد عكاشة: - هل للبلد نفسية مثل ساكنيه؟ وكأنه كان منتظرا السؤال، ليس منى ولكن من جموع المصريين، فتدفق ولم أقاطعه خلافاً لعادتى فى حب المداخلة والكلام.. إليكم شلال العلم. - أى بلد فى الدنيا مكون من «بنى آدمين».. والشخصية المصرية كانت مثار بحث لكثير من العلماء والمثقفين وسبق أن شرحوها ووصلوا أولاً إلى أنها فى النواحى الإيجابية شخصية تتميز بالانبساطية والتعلق الشديد بالدين والارتباط بالأسرة وحب الفكاهة حتى فى أسوأ الأوقات، وتتميز أيضًا بحسن النية وطيبة القلب والاندفاعية العاطفية فى القرارات هذا من النواحى الإيجابية. ثانياً أنه فى النواحى السلبية حدث تغير فى الشخصية المصرية خلال الخمسين سنة الأخيرة، أوضحها التمركز حول الذات، مما أدى إلى عدم القدرة على تجاوز المصالح الشخصية، وبالمقارنات بشخصيات أخرى فى العالم نجد أن الإضرابات فى تايلاند تحدث من الشعب التايلاندى لعدم نزاهة الانتخابات، أما فى مصر فنجد أن الإضرابات فى كل أنحاء الجمهورية سواء أسوياء أو معاقين أو عمالا أو موظفين وصولاً لوظائف الدولة.. كلها من أجل زيادة الأجور أى الأكل والشرب!! ثالثاً: أن ضغوط الحياة فى مصر.. من غلاء وتفاوت فى الطبقات فالفقراء ازدادوا فقراً والأغنياء ازدادوا غنى وعدم القدرة على مواجهة المطلوب لإعالة الأسرة.. هذه الضغوط جعلت المصرى يفقد روح الفكاهة.. جعلت الابتسامة نادرة بين الإنسان ونفسه ونادرة فى الشارع المصرى، أصبح الانتماء للدين ظاهرياً والانتماء للوطن نادراً. الشخصية المصرية كانت سابقاً تتميز بحب العمل والإتقان. - مداخلة كتابية (يلاحظ ذلك فى تسجيل علماء وفنانى الحملة الفرنسية وكتاباتهم عن العمال والحرفيين). ويواصل د. عكاشة: - كان تميزها بالإتقان وحب العمل يتوجه عدم الجشع!! حالياً أصبح المصرى يتعامل مع ثقافة الفهلوة والتسلية وكرة القدم بديلاً عن الثقافة العلمية- سواء علماء أو عمالا أو فلاحين- التى كانت تتميز بتحمل المسؤولية والإتقان وتجاوز الذات والتعاون. نلاحظ أن أى عمل جماعى فى مصر غير ناجح ولكن العمل الفردى ينجح فيه المصرى. ويعلن الدكتور أحمد عكاشة أنه حزين أن يختزل الانتماء الوطنى فى كرة القدم. معنى الشرح العلمى للشخصية الذى أعطاه لنا د.عكاشة أننا تغيرنا فعلاً وأن الذى يحدث الآن هو بئر بلا أرض بلا جاذبية أرضية.. هوٌّ يسبح فيه المصريون بلا هوية.. معنى الكلام أن كثرة المصلين فى المساجد مظهر وليست مخبرا... ركوع وسجود وليس اتقاء الله فى العمل والتعامل.. المصرى الذى كان يقيم المعابد ولا يترك توقيعاً على جدرانها ويقيم المساجد ولا يعرف من الذى رفع المئذنة ولا من الذى كتب «لا إله إلا الله محمد رسول الله» بالخط الكوفى البديع.. المصرى الذى كان يحيك السجاد ويلون أركانه وكأن طيوره ترفرف علينا، المصرى الذى يخطب فى ثورة 19 ولا فرق بين عمامة شيخ بيضاء وعمامة قسيس سوداء، المصرى الذى كان يثق فى الراعى وكان الراعى يرعاه بحق الله، حينما فقد المصرى لياقته فى العمل والعبادة، وحينما أصبحت المئذنة مجرد ألوان تتراقص فى مولد النبى، وحينما أصبحت (الصلاة على النبى) تستعمل فى أسوأ مواضعها.. وحينما أصبحت قبة الكنيسة يرتكز تحتها من يفكرون كيف يختلفون ولا يتفقون. حينما وصلنا إلى ذلك أصبحنا تماماً كما قال د. أحمد عكاشة. هذه صورة رسمها عالم نفسى.. اقرأوها جيداً فهى صورة علمية لأحوالنا.