دخلنا طور المراوغة ومحاولة التشويش على فكرة التغيير، باستدراجنا إلى مناقشات عقيمة حول تغيير اللون والواجهات فى حين أن المطلوب تغيير أساسات «العمارة» ذاتها، إذ وجدنا أن البعض يحاول إقحامنا فى جدل حول معدلات النمو ونسب الفقر ونصيب الفرد من الناتج المحلى. وصولا إلى سياسة دعم السلع وأزمة البوتاجاز ورسوم النظافة، وغير ذلك من العناوين، التى قد يكون بعضها مهما حقا، لكنها تغير مجرى الحديث فى الموضوع الأساسى. هى حيلة ليست جديدة، لأننى أذكر أنه حين أثير موضوع «التعددية» عقب انهيار الاتحاد السوفييتى فى أوائل التسعينيات، فإن أحد خطباء الجمعة فى دولة خليجية قال إننا سبقنا الجميع فى تلك التعددية، التى يتشدقون بها، ذلك أن الشريعة أباحت تعدد الزوجات قبل أربعة عشر قرنا، من ثم فإنهم لم يسبقونا فى شىء ولم يقدموا لنا جديدا. كما أن صاحبنا هذا أراد أن يختزل التعددية فى تعدد الزوجات، فإن بعض أصحابنا يفعلون نفس الشىء، حين يحاولون اختزال التغيير فى تغير سياسة الدعم وقوانين الاستثمار. لقد استهول أحدهم، وأبدى دهشة بالغة لأن الدكتور محمد البرادعى أمضى ست ساعات فى حوارات تليفزيونية، دون أن يوجه إليه سؤال واحد حول سياسة الدعم، وذكر فى مقالة احتلت صفحة كاملة أن الدهشة لم تفارقه حين وجد أن الرجل رد على السؤال قائلا إنه يتعين الحفاظ على دعم رغيف الخبز، ولكن يمكن التفكير فى تغيير دعم الطاقة. وكان تعليق الكاتب أنها ذات الإجابة التى قدمها الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء على أسئلة مماثلة. وكأنه يحاول أن يوصل إلى القارئ رسالة تقول إن البرادعى لم يأت بجديد وإنه ليس لديه ما يصيفه إلى السياسة المطبقة فى ظل الوضع الراهن. وفى هذه الحالة فإن الذى تعرفه خير ممن لم تسبق لك معرفة به. من جانبى دهشت أيضا لسببين آخرين، أحدهما أن يستسلم الدكتور البرادعى لهذا الاستدراج ويحدد موقفا إزاء سياسة الدعم. حتى تمنيت فى هذه الحالة لو أنه رد قائلا إن تلك مسألة يحددها أهل الاختصاص، وهى فرع عن السياسة الاقتصادية التى من المبكر الخوض فى تفاصيلها الآن، السبب الثانى للدهشة يتمثل فى مبدأ طرح السؤال، ومحاولة اختزال الدعوة إلى التغيير فى مسألة دعم السلع وسياسة دعم الاستثمارات الخارجية. أفهم أن أوضاعا كثيرة تحتاج إلى تغيير، لكننا لا نستطيع أن نساوى فيما بينها، وإنما يتعين أن يكون لها ترتيبا وأولويات. وإذا اعتبرنا أن ثمة هرما لعناوين التغيير والإصلاح، فإن قضية الحرية والديمقراطية فى الداخل واستقلال القرار السياسى فى الخارج، ينبغى أن تحتل رأس ذلك الهرم. لا يقلل ذلك من شأن التنمية والإصلاح الاقتصادى، لكن ذلك مما يأتى فى مرتبة تالية بعد الحرية والديمقراطية، التى أكرر أن لها أركانا ثلاثة هى حق المجتمع فى المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. وأزعم فى هذا الصدد أن إطلاق الحريات بالمفهوم السابق يمثل الفارق الأساسى بين المجتمع الإنسانى وحظيرة الحيوانات، وهذا التشبيه ليس من عندى، لأننى سمعته ذات مرة من أستاذة للعلوم السياسية فى إحدى الجامعات الخليجية، كانت تتحدث عن مظاهر الرفاهية والراحة، التى تتوافر للمواطن الخليجى، وذكرت أن أمثال أولئك المواطنين إذا لم يشاركوا فى صياغة حاضرهم ومستقبلهم فإن وضعهم لن يختلف كثيرا عن حالة أى قطيع فى مزرعة عصرية، يتوافر للماشية فيها الغذاء الجيد والرعاية الصحية الممتازة وتكييف الهواء اللازم ومجال الحركة المعتبر. إن الذين يحاولون إقناعنا بأن الأمور الاقتصادية تسير إلى أحسن، ويستدلون فى ذلك بمؤشرات عدة، حقيقية أو وهمية، فى حين يتجاهلون الأساس المتمثل فى غياب الحرية والديمقراطية فى مصر، يريدون أن يقولوا لنا إن الحظيرة بخير، ومن ثم فلا داعى للقلق أو التغيير. وذلك هو الحاصل فى تونس مثلا، التى تتحدث التقارير الدولية بإيجابية عن معدلات نموها الاقتصادى. لكن قيمة ذلك الإنجاز تتراجع حين نطالع فى تقارير المنظمات الحقوقية صورة السجن الكبير هناك، التى تعيد إلى الأذهان فكرة الحظيرة الجيدة التجهيز. إن الجماعة الوطنية المصرية حين تعلقت بأمل التغيير كانت ولا تزال تتطلع إلى بناء مجتمع حر، ولم تحلم يوما ما بأن تعيش فى حظيرة مكيفة الهواء!