حين تغرب شمس القاهرة ، وتعلو أصوات المؤذنين داعية للصلاة ، يصطفون جميعا ليؤمهم "الأخ الأكبر" فى الركوع والسجود ، وعقب الصلاة يتحلقون فى هدوء ، ويبدءون فى قراءة "رسائل النور" بسكينة وخشوع .. إنهم أبناء "جماعة النور"! جماعة النور هى أكبر جماعة دينية فى تركيا ، تملك مجموعة من الصحف والمجلات ومحطة تليفزيونية فضائية ، ومحطات إذاعية على موجات F.M ، وشركات تجارية ، وبنوكا استثمارية داخل تركيا وخارجها ، وثمة أرقام غير رسمية تؤكد أن عدد المنتسبين للجماعة فى تركيا قد تجاوز المليون عضو ، وتشير تقارير صحفية وتحليلات إلى خروج حزب العدالة والتنمية الحاكم من عبائتها الروحية ، والرئيس الروحى للجماعة هو محمد فتح الله جولن ، ويقيم فى الولاياتالمتحدة منذ سنة 1998، إذ صدرت بحقه قرارات اتهام من قبل نيابة أمن الدولة التركية بأنه "عدو لأتاتورك" ، ويسعى لتقويض الدولة العلمانية لإقامة دولة إسلامية! تنتسب الجماعة إلى "رسائل النور"، تلك المجلدات العشرة التى كتبها المتصوف التركى الشهير "بديع الزمان سعيد النورسى " (توفى 1960 م) ، مسجلا فيها خواطره عن القرآن ، ومحاولا تفسيره بالحديث النبوى والمشاهدات فى كتاب الكون المفتوح !! وبعد وفاته حمل فتح الله جولن على عاتقه مهمة نشر تلك الرسائل فى العالم ، باعتبارها الفهم الإسلامى الأقرب لديه لروح القرآن ، وفى هذا الإطار تأسست جماعة النور وانتشرت فى تركيا ، ولنشر رسائل النورسى أسست الجماعة ما يقرب من 10 دور نشر تهتم بطباعة رسائل النور بالتركية واللغات الأخرى (العربية والإنكليزية والألمانية والفرنسية والروسية ولغات بلدان آسيا الوسطى وغيرها من اللغات حتى الصينية) ، وكانت البداية فى العراق ، ولهذا الغرض قدموا لمصر وأسسوا مدرستهم! جاءوا إلى القاهرة فى منتصف الثمانينيات ليشاركوا فى معرض الكتاب الدولى بالرسائل ، التى قام بترجمة أغلبها وتحقيقه العراقى إحسان قاسم الصالحى فى ترجمة صعبة خشنة (حتى لا يأخذ الرسائل إلا الجادون كما يبررون ذلك) ، وفى منتصف التسعينيات (1996) أقام الأزهر بالاشتراك مع جمعية الشبان المسلمين العالمية مسابقة للبحث والكتابة عن الرسائل ، واختير عشرة فائزين من مسلمى إفريقيا والبلاد العربية ، ومنحوا جوائز قيمة ، وتسنى لبعضهم السفر لتركيا ، حيث يعقد مؤتمر عالمى للرسائل كل أربع سنوات ، تدعى إليه شخصيات مسيحية ذات حيثية ، بجانب الحضور من المسلمين. واليوم هم مستقرون فى القاهرة والمحافظات ، ولهم دار نشرهم المعنية بطبع الرسائل وترجماتها ونشر الأبحاث حول حياة كاتبها (النورسي) . ويعقدون مجالس قراءة الرسائل يوميا عقب صلاة المغرب فى أغلب المحافظات ، ومدرستهم الرئيسية (شقتهم التى يقيمون بها بمدينة نصر ) مفتوحة فى كل الأوقات لطلاب النور القادمين من كل أنحاء العالم ، ويمكن للمغتربين والقادمين من المحافظات المبيت فيها! يبدءون يومهم بصلاة الفجر ، وقراءة الأوراد والأذكار ، وقراءة أجزاء من الرسائل ، جهرا ، ويقوم الأعضاء المكلفون بالخدمة بأعمال التنظيف وإعداد الطعام ، بينما ينصرف الطلاب منهم والعاملون إلى أماكن عملهم ، وعلى مدار اليوم يستقبلون زوار المدرسة من المصريين وأبناء العالم الإسلامى الدارسين بالأزهر ، وعقب كل صلاة ينخرط الحاضرون (عادة يكونون من مختلف أنحاء العالم الإسلامى ، خاصة الأزهريين) فى قراءة الرسائل ، بالتناوب ، لا فارق فى السن ولا مستوى التعليم ، ويدعون للنورسى ويترضون عليه (يذكرونه بسيدنا النورسي) ، ويحاول كل واحد شرح ما قرأه من الرسائل ، ويدير الحلقة الأخ الأكبر الذى يعاملونه بتوقير وطاعة تذكرنا بالصرامة والانضباط التركى المعروفين. يتلقون تمويلهم من أموال الزكاة والأوقاف فى تركيا ، إضافة إلى تبرعات رجال أعمال فى تركيا وسائر أنحاء العالم ، يؤمنون ب"الرسائل" وأهمية نشرها فى العالم بين المسلمين وسواهم . من يدرس فى الأزهرمن أعضاء الجماعة يبق حتى يتم دراسته ثم يمكن له العودة لتركيا ، أما غير الطلاب منهم فهم متطوعون ، يتبرعون بثلاث سنوات من عمرهم يقضونها فى القاهرة ، أو واحدة من مدن العالم الإسلامى لخدمة الرسائل ، وخدمة المدرسة!