مرور الابن بمرحلة البلوغ أمر يسعد أسرته بالتأكيد، فظهور شعيرات الشارب وخشونة صوت الولد، ونمو الثدى وبدء الدورة الشهرية لدى البنت كلها أشياء تعلن عن دخول الطفل مرحلة جديدة من عمره يفرح لها الوالدان لأنها تعنى بداية النضج الجنسى لطفلهما، لكنها بدون شك أمور مقلقة للغاية إذا واجههما طفل لم يتعد السابعة أو الثامنة من عمره بعد مظاهر البلوغ عادة لا يتوقعها الآباء قبل سن الحادية عشرة على الأقل، باعتبارها السن الطبيعية، وكما هو موجود فى كتب الطب، وفيها يبدو الطفل نفسه على استعداد أولى للتعامل معها وتفهمها وإدراك التغيرات الجديدة التى تطرأ على جسده، إلا أنه فى السنوات الأخيرة لوحظ انخفاض شديد فى المعدل العمرى الذى يصل فيه الطفل لسن البلوغ وما يصاحبه من نمو جنسى خاصة لدى الفتيات، فتشير الدراسات الأوروبية والأمريكية إلى أن عدد الأطفال الذين ينضجون مبكرا بات فى تزايد مستمر فى عدد كبير من دول العالم، وبات من المألوف أن تجد فى كل فصل مدرسى طفلتين وربما أكثر ترفضان مشاركة أقرانهما اللعب بسبب آلام الدورة الشهرية، وآخر يلمح غرابة فى نبرة الصوت أو خجلا من كثافة شعر الذقن أو الساقين مقارنة بزملائه الذين لم يبلغوا الثامنة بعد؟ امرأة السابعة ظاهرة مقلقة لأولياء الأمور والبعض عبر عن عجزه عن استيعابها والتعامل معها، فإحدى الأمهات الأمريكيات تقول لم يمض على فطام ابنتى الصغيرة سوى خمس سنوات، والآن أمامى امرأة ناضجة برغم مظهرها وحجمها الذى لا يختلف عن أية فتاة أخرى فى مثل عمرها، وقد أصبح من واجبى أن أشرح لطفلة فى السابعة معنى الآلام التى تعانى منها كل شهر، وكيف تنظم مواعيدها، وخلال أشهر فقط سيتعين عليها ارتداء حمالة صدر قبل أن تصل للعاشرة العلماء من جانبهم يؤكدون على أن ظاهرة انخفاض سن البلوغ تتحقق بشكل أكبر لدى الفتيات مقارنة بالأطفال الذكور، إلا أن هذا لا ينفى حدوث الإنخفاض لدى الجنسين بمعدل مقلق، فالبلوغ المبكر له انعكاسات سلبية ربما كانت خطيرة على الصحة فيما بعد، بحسب الدراسات الحديثة، التى كشفت عن نتائج آخرها منذ أيام عقب أبحاث استمرت عاما فى الدنمارك، وشملت أكثر من فتاة بين الخامسة وحتى العشرين، وتبين مرور أغلب عينات الدراسة ببلوغ مبكر قبل الوصول لسن المراهقة، بل إن الدراسة الدنماركية سجلت حالة بلوغ كامل لتوأمين من الفتيات فى سن السابعة، وأشار «آندرز يوول» رئيس وحدة أبحاث النمو والصحة الإنجابية بمستشفى جامعة كوبنهاجن إلى أن نتائج الدراسة تنسحب على أغلب الدول الأوروبية، وتتفق مع دراسات مماثلة أجريت مؤخرا فى الولاياتالمتحدة، إلا أن المركز الدنماركى حاول الوقوف على أسباب الظاهرة، وعلى الرغم من عدم الجزم، إلا أن هناك عدة عوامل يرجح الباحثون بقوة تسببها فى حدوث حالات البلوغ المبكر لدى الأطفال، وعلى رأسها بعض الكيماويات المصنعة التى تدخل فى تركيب مواد الدهانات والطلاء ومواد التجميل وبعض الأغذية المحفوظة والأطعمة المصنعة، وتنتمى هذه المركبات لعائلة «البارابينات» و«الفناليتات» تقول «د لايزا اكسجلات» أحد المشرفين على الدراسة أن مشكلة هذه الكيماويات تكمن فى «تواجدها فى كل شىء تقريبا، كما لوحظ ارتفاع معدلاتها فى عينات الدم المأخوذة من المشاركات فى الدراسة، وبرغم ذلك فلا يسعنا حتى الآن أن نعزى البلوغ المبكر إلى هذه المركبات بشكل قاطع» ؟ الباحثون يؤكدون أيضا أن الظاهرة لها تداعيات صحية معقدة، فأغلب الفتيات اللاتى تأتيهن الدورة الشهرية مبكرا هن أكثر عرضة للإصابة بسرطانات الثدى والرحم والمبايض، وفى سن مبكرة أيضا، كما أن الزيادة المفرطة فى الهرمونات فى سن صغيرة قد تعيق عمليات النمو بشكل طبيعى لدى الجنسين، مما يؤدى إلى الإصابة بقصر القامة وتشوهات العظام، فضلا عن الخلل النفسى والذهنى المصاحب لظاهرة البلوغ المبكر لدى هؤلاء الأطفال نتيجة لصعوبة تقبل التغيرات الفسيولوجية والجنسية الطارئة التى تعيق إلى حد كبير اندماجهم الطبيعى مع أقرانهم و الدراسات الحديثة للظاهرة كشفت كذلك عن مفاجأة غير متوقعة، فيؤكد العلماء الأوروبيون والأمريكيون أنه على خلاف المتوقع فإن البلوغ المبكر لا يعنى بالضرورة قدرات جنسية أكبر أو عمرا جنسيا أطول لدى هؤلاء الشباب، أى أن الأطفال البالغين لا يتمتعون بحياة جنسية أكثر تميزا عن غيرهم، وربما كان العكس صحيحا وفقا لآراء العلماء، فالأطفال البالغون عادة ما تكون أعمارهم الجنسية أقصر، فالطفلة التى تنضج مبكرا تمر بسن اليأس مبكرا جدا فى أغلب الأحيان، كما أن الذكور لم تسجل عليهم مظاهر فحولة جنسية أكثر من غيرهم حال بلوغهم مبكرا وتشير صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية التى نشرت إحدى الدراسات العلمية الحديثة وباشرت التحقيق فيها إلى أن طول فترة البلوغ نفسها قد زادت على امتداد الأجيال الماضية، فالدراسات التاريخية سجلت تغيرا جذريا فى توقيت البلوغ وكذلك مدته فى الفترة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، حيث استمرت معدلات بدء الدورة الشهرية عند الفتيات على سبيل المثال فى الإنخفاض بمعدل من شهرين إلى ثلاثة للعقد الواحد فى أوروبا وأمريكا على السواء، حتى أصبحت الفتاة تمر بتجربة الحيض فى سن الثالثة عشرة بعد أن كانت لا تحيض قبل السابعة عشرة، بل إن المعدلات شهدت انخفاضا متزايدا منذ بدء عقد التسعينيات، وفى الولاياتالمتحدة فإن السوداوات يبلغن فى سن أقل مقارنة بمن هن فى عمرهن من اللاتينيات، بينما تبلغ الشقراوات عند عمر أكبر منهن جميعا، وإن كانت الفروق السنية طفيفة فى المجمل ؟ وبحسب «نيويورك تايمز» فإن الجانب الإيجابى للمسألة يكمن فى تحسن الخدمات الصحية وزيادة الوعى وجودة التغذية خاصة بين الأطفال، وهى عوامل تصب فى اتجاه رفاهية الطفل وربما أسهمت بدورها فى تحفيز نضجه الجنسى بالتبعية، إلا أن مواصلة إنخفاض المعدلات السنية للبلوغ فى المقابل قد لا تقتصر آثارها السلبية فقط على صحة الطفل، وإنما قد تمتد إلى تحقيق تأثير اجتماعى سلبى مماثل، فالنضج الجنسى المبكر لدى الأطفال قد يعرضهم لخطر الإغتصاب والإعتداء والزواج المبكر والإنخراط فى العلاقات الجنسية وتعاطى المخدرات والكحوليات خاصة بين الذكور فى ظل تمتعهم بمؤهلات فسيولوجية أكبر من قدراتهم، مما يزيد من حالات الإكتئاب التى قد تنتهى بشكل مأساوى وبالنسبة لعدد كبير من الباحثين تعد السمنة المتهم رقم واحد وراء هذه الظاهرة، فالدراسات الأمريكية التى أجريت فى العقد الماضى وجدت أن معظم الأطفال البالغين دون العاشرة تزيد أوزانهم على المعدلات الطبيعية بشكل أو بآخر، كما أن بعض الآراء لا ترى تعارضا بين سمنة الطفل وبلوغه مبكرا وضعف صحته الإنجابية فيما بعد، فهى منظومة يؤدى بعضها إلى بعض ؟ الطبيبة الأمريكية «سوجاثا ريدى» أوضحت أن البلوغ المبكر ظاهرة ملحوظة أكثر فى الفتيات لأنها مرتبطة أساسا بإفراز هرمون «الأستروجين»، وتضيف «د. ريدى» إنها لحقيقة علمية معروفة كلما زادت الخلايا الدهنية فى جسم البنت، زادت معدلات إفراز هرمون «الأستروجين»، وهو ما يفسر ارتباط البلوغ المبكر بالسمنة، وبالتالى تتزايد احتمالات الإصابة بسرطانات الأعضاء التناسلية لدى الفتاة، واللافت للنظر أن طبيبة أمريكية أخرى هى «ليزا بانديرا» ترى أن الظاهرة لاتزال بحاجة للمزيد من الدراسة، وهى فى هذا الإطار تسعى إلى ضم أكثر من فتاة بين سن التاسعة والعاشرة إلى برنامج بحثى تتولى الإشراف عليه بهدف إجراء دراسة أوسع وأكثر شمولية على ما أسمته ظاهرة «فتيات جيرسى» كما لاحظت «بانديرا»، فإن الأطفال الإناث فى «نيوجيرسى» يملن بصورة أكبر إلى البلوغ مبكرا، مما يجعلهن صاحبات أعلى معدل فى الإصابة بسرطان الثدى، حيث تؤكد «بانديرا» أن مشاهداتها المعملية تشير إلى أن الفتاة التى تبلغ قبل الحادية عشرة تزيد معدلات إصابتها بسرطان الثدى بنسبة أضعاف عن الطفلة العادية، وترى «د. بانديرا» أن الظاهرة وراءها مجموعة أسباب، بعضها بيئى مثل استخدام أنواع معينة من المواد البلاستيكية والأغذية المهندسة وراثيا، وبعضها تربوى مثل الرضاعة الصناعية بدلا من ثدى الأم، وبعضها اجتماعى مثل انتشار أفلام البورنو واطلاع الأطفال على الأمور الجنسية فى سن صغيرة، وتؤكد «بانديرا» أن هذه العوامل فى مجملها تشكل حافزا قويا لحدوث البلوغ المبكر، وعادة ما يتعرض الطفل لأكثر من سبب من هذه المسببات إن لم يكن جميعها فى وقت واحد، حيث تظهر بسهولة حالة «فتيات جيرسى» أو الأطفال البالغين، ف «نيو جيرسى» من أكثر المناطق تلوثا فى الولاياتالمتحدة وبها مريضة سرطان فيما يعزى الأطباء والباحثون الظاهرة إلى عوامل عدة، فإن د «بول كابلوفيتش» أستاذ طب الأطفال وزميل كلية طب فرجينيا يرى القضية محسومة فهو يقول إن سائر العوامل مشكوك فيها بالنسبة لظاهرة «فتيات جيرسى»، لكن السمنة هى العامل المشترك الأبرز والأوضح بين الحالات كلها تقريبا، ويدلل «د كابلو فيتش» على رأيه من خلال حقيقة بلوغ الأطفال السود مبكرا مقارنة بسائر الأجناس فى الولاياتالمتحدة، فيؤكد أن السود يفضلون القوام الممتلئ والأجسام الضخمة، وهو أمر بات له طابع جينى وراثى بين السوداوات، مما يعجل بنضجهن مبكرا عكس الشقراوات اللاتى يملن للنحافة بشكل وراثى أيضا، ويرى أستاذ طب الأطفال أن الظاهرة ربما لا تصبح مقلقة لدى أولياء الأمور بالفعل إلا إذا صاحبتها أعراض مرضية قوية كالغثيان والصداع والزغللة وآلام البطن الشديدة المتكررة، إذ إن هذا ربما ينذر بوجود أورام تناسلية أو اضطرابات فى الغدد نتيجة للإفراز المفرط والمبكر ل «الأستروجين» لدى الفتيات، كما أن التناقص المطرد فى الوزن قد يكون مؤشرا لخلل فسيولوجى لدى الأولاد الذين يبلغون مبكرا ؟ على صعيد آخر، فإن خبراء التغذية يشيرون إلى عامل مختلف قد تكون له علاقة قوية بالبلوغ المبكر للأطفال، فتقول د «هيلين ديليزل» أستاذ بقسم التغذية بجامعة مونتريال أن «التبنى» قد يكون مسببا قويا لبلوغ الأطفال المتبنين مبكرا، فعلى مدى عاما من متابعة الأنماط الغذائية للأطفال فى عدة دول وجدت «ديليزل» أن التبنى لاسيما مع انتقال الأطفال من دولة لأخرى له آثار سلبية على صحة المتبنين وبشكل عام، فإن عاداتهم الغذائية تتناسب مع المستوى الاجتماعى المنخفض فى الدول التى ولدوا بها، ثم يتعرضون لظروف معيشية أفضل لدى أسر التبنى مما يتسبب فى زيادة أوزانهم بشكل مفاجئ، وفى النهاية تتعرض نسبة كبيرة منهم لمخاطر البلوغ المبكر الذى قد ينخفض لسن السابعة لدى الفتيات والتاسعة لدى الصبيان، وتقول خبيرة التغذية الكندية إن التبنى وما يستتبعه من بلوغ مبكر قد ينتهى بإصابة الطفل المتبنّى بأمراض خطيرة منها السكر وتصلب الشرايين والعصبية الشديدة، وعلى الجانب النفسى تقول د «هيلين ديليزل» إن خبرات التبنى والظروف المصاحبة لها، وفترة عدم الاستقرار فى حد ذاتها قد تعجل ببلوغ هؤلاء الأطفال ظاهرة البلوغ المبكر يبدو بالفعل أنها باتت شغل أطباء الأطفال الشاغل فى أوروبا وأمريكا الآن، فهم يعكفون على دراسة كل جوانبها حتى إن بحثا علميا نشرته دورية «طب الأطفال والمراهقين» الدولية المرموقة كشف عن أن الأطفال البالغين مبكرا خاصة الفتيات قد يصبحون مراهقين أكثر عدوانية وشراسة عن أقرانهم فى حالة انصراف الوالدين عن توفير الرعاية الأسرية والنفسية اللازمة لهم، وبحسب البحث فإن نسبة لا يستهان بها من المراهقين ذوى السجلات الإجرامية كانوا أطفالا بالغين فى سن صغيرة، وعلى الرغم من هذه التحذيرات العلمية، ورغم غموض أسباب ونتائج الظاهرة باعتراف علماء طب الأطفال أنفسهم، إلا أن عددا منهم يطمئن الأسر التى يتعرض أطفالها لحالات بلوغ مبكرة مؤكدين أن الظاهرة حال تفهمها والتعامل معها بوعى قد تمر بسلام دون مخاطر تذكر، فليس بالضرورة أن يصبح كل طفل بالغ مجرما أو مريضا فيما بعد.