متى سنتجاوز عمليات الحجر الفكري ومصادرة المخطوطات والكتب الواردة، سواء كانت بصحبة مواطن عائد إلى أرض الوطن، أو مسافر زائر أو مرسلة لإحدى دور التوزيع أو المكتبات الليبية؟! وهل لهذه العمليات والإجراءات المتخلِّفة- والتى يتم بمقتضاها منع المطبوعات من الدخول إلى البلاد- أي قيمة عملية أمام عولمة المعرفة وانتشارها من خلال تطور وسائل الاتصال المختلفة وانطلاقها عبر الإنترنت، بحيث تستطيع الحصول على نسخة كاملة من الكتاب الذي ترغب في الإطلاع عليه أو اقتنائه في بيتك أينما كنت أو تخزِّنه على جهازك وتقرأه متى تشاء؟ وكذلك الصحف التى تستطيع يوم صدورها صباحًا أن تتصفحها عبر الإنترنت في أي مكان من العالم. العجيب لدينا أن التعليمات والأوامر إلى منافذ الدخول تمنع أي كتاب أو صحيفة أو نشرة أو مطبوعة من النشر إلا بموافقة المطبوعات المسبقة، تصوروا حتى كتب القرآن الكريم غير المطبوعة في ليبيا يحظر دخولها، عجيب أمر من أصدر هذا القرار، هل يعيش في القرون الوسطى، أم أنه يتعامل مع الأمور المعرفية الفكرية دون إلمام بتطوراتها وعولمتها، لا أستطيع أن أصف هذا القرار مهما كان مصدره إلا بأنه "قرار غبي" ينم عن تخلُّف فكري دون أدنى شك، فكل الكتب والمطبوعات والصحف تحجز ويمنح صاحبها إيصالا لمراجعة المطبوعات، وبعد موافقتهم يرجع للمنفذ لاستلامها، وغالبًا لا يجدها؛ لأن المسؤلين عن التخزين يسربونها أحيانا، ويتاجرون فيها مثلما يحدث في السلع التموينية عند مصادرتها على المنافذ!! تعالوا لنقف معًا بشكل عقلاني على أساس المشكلة، أليس هذا إجراءً متخلفًا في وقت انفتح فيه العالم من خلال القنوات المرئية وشبكة المعلومات الإلكترونية وحركة التنقل العالمية التى تتيح للإنسان حرية الإطلاع والمشاهدة والقراءة لأي فكر في هذا العالم؟ أليس الحجر الفكري على أي شعب أصبح شكلاً من أشكال الغباء السلطوي الذي يجب أن لا نوسم به؟! إن الدعوى بأننا نسعى من خلال ذلك لحماية الأمن الفكري ومنع تسرّب الأفكار الهدامة، "دون قياس لماهية الهدم ونوعه"، ومن أجل المحافظة على تراثنا وأخلاقياتنا- أصبحت دعوى غير منطقية وغير مقنعة، لأنها ولَّى زمانها بعد أن اخترقتنا وسائل نقل المعرفة داخل بيوتنا دون رقيب، سواء كانت هذه الوسائل إيجابية أم سلبية، فهي ستتواجد داخلنا، وليس لنا سلاح لمواجهة السيئ منها إلا بإعداد أجيالنا وشبابنا وأنفسنا، وأن نتسلح بفكرنا الإسلامي الذى يستطيع وحده حمايتنا من الانزلاق وراء المنكر المعرفي الهدام للمجتمع. وكما يقال: العالم أصبح قرية كونية صغيرة جدًّا، تتنقل فيها المعرفة والتيارات الفكرية بسهولة ويسر، وإن أصحاب الحجج المتعلقة بمبررات المنع هم الفاشلون الذين لم يستطيعوا أن يغرسوا في أبنائهم معارفهم وثقافاتهم؛ لكى يتمكنوا بعقولهم من أن يميزوا بين الغث والسّمين من الفكر المطروح عالميًّا في كل مكان، إن تمكين الشباب من عقائدهم الدينية وأنماط ثقافتهم العربية وأيديولوجياتهم في الحياة بصورة صحيحة هي وحدهاالشىء الكفيل والضمان الوحيد لعدم تأثرهم بأية أفكار غريبة علينا. إن المولى عز وجل لو أراد لهذا الكون أن يكون خيّرًا دون شرور لكان كذلك دون أدنى شك؛ ولكن لحكمة ارتضاها أوجد الخير بأفعاله وأفكاره وأنماطه المختلفة، وأوجد الشر بأفكاره وأنماطه المختلفة، كي يميز الخبيث من الطيب، وأرسل الرسل لنتبعها إلى الخير، ونبتعد عن الشر، وترك للإنسان حرية الاختيار والتوجه مع إعلامه بكل أساليب الثواب والعقاب.. إذن فإن الله جل جلاله لو أراد أن يمنع الشر لفعل ذلك، فإذا كان خالقنا وخالق هذا الكون بكل ما فيه لم يقم بذلك، فهل يستطيع ثلة متخلفة من البشر أن تمنع وتحجر على الفكر، سواء كان فكرًا خيِّرًا أو شريرًا. أؤكد هنا جازمًا أن أي إجراءات للحجر على الفكر، في زمننا الحالي، حتمًا ستكون نتائجها سلبية، بل إنها ستؤدي إلى ما هو أكثر عندما يحدث شغف ولهفة لدى الشباب خاصة والناس عامة؛ لتلُّقف هذه المعارف الممنوعة بحكم إجراءات الحجر الفكري سيئة السمعة عالميًّا وإنسانيًّا. ولكي لا يُساء فهمي، فأنا هنا لا أتحدث عن إباحية فكرية؛ ولكنني أوضح أن العولمة الفكرية والمعرفية فرضت علينا معالجتها والتصدى لما نراه هدامًا منها بقياس عقيدتنا الإسلامية دون غيرها- يجب أن لا يكون بمثل هذه الإجراءات، بل يكون برفع المستوى الثقافي وأدواته من خلال مراكز إشعاع فكرية تنير فكر الشباب، ولا يكون ذلك بما قمنا ونقوم به من تجمُّعات تحت مسمى "معسكرات التربية العقائدية" التي لن تكون مصدرًا لوقاية شبابنا، بل إنها مصدر تناقض بين ما يسمعونه من مثاليات في هذه المعسكرات وما يشاهدونه في الشارع، حيث ينفّرون الشباب في هذه المعسكرات عن الاستغلال ويدعونهم إلى محاربته، ومع ذلك يجدون الشارع كله استغلال.. ويحدثونهم عن الوساطة والمحسوبية ويلمسون بأم أعينهم أنه دون الوساطة لا تتحصل على حاجتك، حتى وإن كنت صاحب حق فيها.. ويقولون لهم: شركاء لا أجراء، وهم يرون ما يقع على العامل من ظلم، وغير ذلك كثير... إن الوقاية من التيارات الفكرية الهدامة أساسها المصداقية والعرض السليم الواضح، وهذا لا يتجلى إلا في تفاسير القرآن الكريم، وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفقًا للمنظور الوسطى المعتدل المتماشي مع العصر دون المساس بالثوابت، فنحن اليوم نفتقد كثيرًا للمراكز الثقافية والمكتبات، وأنشطتنا الثقافية قُزِّمت بحيث أصبحت تتناول فقط الكتاب الأخضر أو ما يتعلق به من مسائل، وحتى إذا تناول أحد بالبحث أية مسألة فكرية، فيجب أن يضيف منظور الكتاب الأخضر في هذه المسألة؛ لأنه لولا ذلك لن يلقي محاضرته أو ينشر بحثه إلا القليل القليل، وهذا الأسلوب أساء كثيرًا للكِتاب وللنظرية ذاتها. هل هذه هي الثقافة الليبية؟! وهل لمثل هذه الثقافة أن تصمد أمام التيارات الثقافية الفكرية، سواء الغربية منها أو الشرقية، أو حتى العربية، بالإضافة إلى غيرها من أنماط جديدة بدأت تنطلق من أمريكا اللاتينية والصين واليابان؟!! إن البداهة تقول لنا: إننا لكي يزداد إيماننا بثقافة ما أو أيديولوجية ما، لابد أن نسمح للجميع بالإطلاع والتعرف على كل الأفكار وكل الثقافات والأيديولوجيات، وأن نقتنع بأنفسنا، "وليس بالضرورة أن نقتنع جميعًا" بأن ثقافتنا وأيديولوجيتنا هي الأفضل، وبمعرفتنا وإلمامنا بثقافة الغير نستطيع أن ندافع عن ثقافتنا وهويتنا، هكذا يكون الإيمان بتوجهاتنا الفكرية قويًّا محصنًا لا يتزعزع، ولا يمكن التأثير فيه عكسيًّا بسهولة، وإنما بجهد كبير ودراسات وتفكير لاستنباط مواقع الضعف في تفكيرنا والتوجه إليها لا اختراقها، وحتمًا فإن الإيمان حتى وإن كان ميسرًا فلن يكون لكل الناس، وحتمًا سيكون من بيننا من يخالفنا الرأي، وهنا تبرز حرية الرأي والمعتقد، باحترام الرأي الآخر وعدم التنكيل به أو استعمال مظاهر العنف ضده والإقصاء له. علينا أن نعترف أولاً أن الفكر الإنسانى متعدد ومتغير، وأن ما أراه أنا أيديولوجية ومنهاجًا فكريًّا جيدًا، قد يراه الآخرون عكس ذلك، وبالتالى فإن علينا أن نعي أنه لا توجد أيديولوجية عالمية أو نظرية عالمية واحدة، وإنما أفكار وثقافات وأيديولوجيات متعددة تتأثّر بعوامل البيئة والدين، فعلينا أن نحترم اختيارات الجميع ونستمع لهم مثلما يجب عليهم الاستماع لنا واحترام خياراتنا. عودة للإجراء "الغبي"، وسامحوني في استخدام هذا اللفظ، الذي أطلقته على التعليمات الصادرة لمنافذ الدخول البرية والبحرية والجوية بمنع دخول أي نوع من أنواع المطبوعات التى تحجز كل وارد، "وهى تحدد الذي يسمح له بالدخول من عدمه"، إن هذا الإجراء يظهر بلادنا بمظهر التخلف المشين، فعلاً هذا الإجراء يحتاج إلى مراجعة فورية، وقرارات جريئة تزيل وترفع عنا صفة التخلف هذه. يقول الدكتور محمد الخفيف: لابد من الإقرار بأن الهوية الفكرية والخصوصية الثقافية مسألة حتمية ومُسلّم بها، ولا يمكن مناقشتها أو إعادة النظر فيها، وإن الجدل الدائر حول العولمة ومفهوم القرية الكونية لا يمنع من استمرار الثقافات والحضارات الوطنية والتاريخية، إذا اهتم بها أبناؤها ونَمَّوا الجيد منها، ونقلوها إلى الجيل الجديد في المجتمع، وسيكون هناك هامش كبير من التبادل الفكري من خلال هذا الكون العالمي الصغير، ولكنها حتمًا ستبقى دائمًا هي المحرك الرئيسى لسياسات الشعوب، خاصة تلك المرتبطة بالعامل الديني كمنظومة فكرية تبقى مغروسة في عمق الذاكرة المجتمعية للأمم والشعوب. ويجزم "شيلر" أحد أبرز الباحثين في قضايا التنمية الثقافية بأن سبب تخلف معظم البلدان التي تقع في تصنيف "العالم الثالث" جاء بسبب اصطدام خططها ومشاريعها التنموية مع مسار منظومتها الفكرية ونظامها القيمي، ويؤكد "شلر" أنه لا يمكن أن نعلم الناس سلوكًا مهمًّا كأن يكون حضاريًّا ومتقدمًا في الغرب لأناس يعتقدون أن ثقافتهم تعتبره لا أخلاقيًّا. من هنا يتضح لنا جليًّا أن الإقصاء المعرفي ومنع انتقال الفكر لا يتأتّى بمنع المطبوعات، وإنما بتمكين وغرس قيمنا الثقافية والاجتماعية في أبنائنا؛ لكي نحقق لهم الأمن والأمان الفكري، فلا تتزعزع معتقداتهم الثقافية، أو تكون هدفًا للأنماط المستوردة لتحل محلها بكل سهولة ويسر، خاصة وأننا في حالة ضعف شديد في برامج الإعداد الثقافي بكافة أشكالها ومواضيعها الدينية والاجتماعية لأبنائنا، وبالتالي فإنهم يتشربون الجديد المستورد ويهيمون به، ومع مرور الزمن يتأصل فيهم ويتحول من نمط مستورد إلى نمط محلي مجتمعي وطني. إذن فظاهرة الإقصاء هي سمة للثقافة الموحدة الواحدة التي لا تعترف بالآخر، ومن ثم لا تقبل به بطبيعة الحال، وهذه الظاهرة ارتبطت تاريخيًّا في الثقافة العربية بالمؤسسة السياسية التى اعتادت أن تنفي الآخر خارج البلاد أو تلقي به في غياهب السجون.. من هنا كان حزني شديدًا؛ لأنني أرى شبابنا في بلادي يمارسون الإقصاء السياسي من وراء الأقنعة، إنهم لا يستطيعون الإشهار بذلك، ولكنهم يمارسونه حين يستخدمون الأدوات الألكترونية كالإنترنت ضد شخص قد يُكنّ لهم كل الاحترام!! إن الإقصاء وتكميم الأفواه ومنع المخطوطات والكتب لم يكن أمرًا شائعًا في الثقافة العربية الأولى، بل بالعكس نقلت لنا الكتب أخبار مجالس الخلفاء في الدولة العربية الإسلامية التي غالبًا ما كانت تحفل بالمناقشات والاختلافات في وجهات النظر وحرية الرأي التي كانت مكفولة بشكل عام للجميع، وإلا لَمَا كانت تلك الحضارة وهذا الازدهار المعرفي والثقافي يجتاح قارات العالم وينتشر بهذه الصورة، ولعلي أسوق مثلاً بسيطًا عن تلك المرأة التى حاجّت الخليفة عمر بن الخطاب، وقال كلمته الشهيرة: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، هل يمكن الآن فى زمننا أن يتجرأ مواطن، بل حتى مسئول أو وزير أن يحاجج الحاكم ويقول له: أنت مخطئ في الأمر الفلاني، فماذا سيكون مصيره لو فعل؟!! هنا نصل إلى حقيقة بديهية، وهى أن ظاهرة الإقصاء وتكميم الأفواه والحجر على الفكر والمعرفة مرادفة تمامًا لسمة التخلف والانغلاق والفقر الفكري والثقافي، ولا تبرز هذه السمات إلا فى بيئة تفصل بينها وبين الأسلوب الحضاري مسافات طويلة. وختامًا نحن نعيش في بلد واحد، نتقاسم السراء والضراء، وفي هذا العصر المتسم بالانفتاح الكبير يجب علينا أن نهتم ببعضنا بدرجة كافية قبل أن نحكم على الآخرين؛ لأن المعركة الأساسية ليست ضد أبناء جلدتنا وشركائنا في الوطن مهما اختلفنا معهم، بل ضد الأربعة الذين بدأو يزدادون للأسف قوة في وطننا الحبيب، وهم: الجهل والفقر والمرض والفساد. وأضيف إليهم الاستبداد، كما قالت أدبيات الآخرين في هذا الكون.. إننا فعلاً الآن في مفترق طرق بين إغماءة وإفاقة.. ويجب أن نفيق.