بمطار بنغازي وأنا استعد لركوب الطائرة متجهًا إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة لحضور مؤتمر وورشة عمل تنظمها المنظمة العربية للأسرة بمدينة الشارقة فوجئت بشاب يضرب بكفيه ويتغير وجه شاحبًا، معلنا ضياع حقيبة صغيرة منه تحتوي على عشرة آلاف دولار كان قد خصصها لشراء بعض البضائع من دبي ليبيعها كتاجر شنطة في ليبيا. كان منظر الشاب يدل على أنه على وشك البكاء ويكاد ينهار أو يغمى عليه، والتف حوله بعض الركاب وجاءته جماعة التفتيش وقالوا له هل أدخلت الشنطة معك في التفتيش؛ لأننا لم نرها معك عند دخولك، فخرجوا معه لخارج القاعة لعله يكون قد نساها في المقهى أو أي مكان ارتاده خلال إنهاء أوراقه، وإلى هنا انتهى المشهد الأول. وبعد أن أعلن عن وصول الطائرة ومغادرة الركاب في الطابور الركوب جاء الشاب ومعه أحد رجال الأمن ويحمل معه حقيبة سفره الكبيرة وحقيبة صغيرة في يده مبتهجًا وطلبوا من مشرف الرحلة إعادته للرحلة، خاصة أنه بعد أن يئس من استرجاع حقيبة نقوده ألغى سفره وخرج يائسًا من المطار فوجد صاحب التاكسي الذي أوصله المطار يبحث عنه ومعه شنطة النقود، وقال له: "تعبت في البحث عنك، فلوسك كما هي في الشنطة، وأنا لم أجدها بل وجدها راكب جاء بعدك وأعطاني إياها". قلت في نفسي: الحمد لله الذي أنعم علينا بهؤلاء، والحمد لله لأن بلادنا مازالت بخير. وبسرعة قارنت بين الراكب وسائق التاكسي، وبين من يزورون في مكافآت الثوار، وبين من يستلم أكثر من راتب، أين هم من هذا النبل والسمو الأخلاقي، نعم إن هذا السمو حفظ الله به بلادنا في أحلك اللحظات قتامة. ذكرتني هذه الحادثة بحادثة أخرى رواها لي حلاق بإحدى الدول العربية، وبالتحديد في الدارالبيضاء بالمغرب، حيث قال لي بعد أن عرف أنني ليبي، أنه سبق أن جاء شاب ليبي وحلق عنده وبعد أن انتهى أخبره الشاب الليبي بأنه ليس معه نقود مغربية وأنه وصل لتوه إلى الدارالبيضاء، وسينزل لتغيير النقود ويرجع لدفع الحساب. وكان جواب الحلاق المغربي بأنه سينتظره، ولكن صاحبنا ذهب ولم يعد. وحاولت أنا أن أتدخل في الحديث لأقدم العذر لعله انشغل في إجراءات إقامته بالفندق ونسي. لكن الحلاق قال لي: مازال للقصة بقية. قلت له أكمل. فاستطرد قائلا: بعد مدة جاءني ليبي آخر وأثناء الحلاقة رويت له القصة، وبعد أن أكمل حلاقته قال لي: كم ثمن الحلاقة، فقلت له: مائة درهم، فدفع لي مائتين، وأخبرني أن المائة الثانية ثمن حلاقة ابن عمي الليبي السابق، وطالبني بأن لا أكرر هذه القصة وإن كررتها فقل ليبي لم يدفع لي ثمن حلاقتي له وجاء آخر لا يعرفه ودفع عنه دينه. إن السلوك الحسن نعمة من المولي عز وجل يمنحها للخيِّرين من عباده بلا شك، ولكن يقع علينا في الأسرة عبئًا كبيرًا في إذكاء وبعث هذا السلوك عند أبنائنا وبناتنا لنزرع فيهم الصدق والأمانة وعدم الاعتداء على حاجات الغير منذ الصغر، لأن زرع هذا الخير سنجني ثماره ونحصده جيلاً يحترمنا في الشارع وفي الأماكن العامة، فعندما نشيخ سنجد شبابًا يحترم شيبتنا، ويقدم السلوك الحسن والمعاملة الطيبة المبنية على أخلاقيات القرآن وسنة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم. نحن في أمس الحاجة إلى تدريس مواد الأخلاق والتربية والسلوك في رياض الأطفال وفي المدارس الابتدائية وأن نعمل في خط موازي علي بعث روح المحبة والأخلاق الحسنة بين شبابنا بمختلف أعمارهم، خاصة فيما يتعلق بسلوك المهنة وإتقان العمل والإخلاص فيه والابتعاد عن المال الحرام. نحتاج حقيقة أن نضع في بؤرة تفكير الشباب الليبي العامل أن كل قرش يدخل جيبه يجب أن يكون مقابل جهد قام به، وأن أي مبلغ يتقاضاه بدون مقابل عمل لا يحق له وأنه حرام، ليس فقط من الناحية الدينية فقط، بل هو سارق مالاً لا يستحقه، وقد يكون حق أحد غيره. إن هذه الثقافة السلوكية تحتاج منا إلى جهد كبير وعمل جاد؛ لكي نحققها ولا نيأس ولا نقول إن الأمر استفحل ولن نستطيع إصلاح الاعوجاج بل على العكس إن الأمر مازال بأيدينا ونستطيع أن نعمل الكثير، والمهم أن نبدأ وأن تصاحب بدايتنا هذه ردعًا قويًا في الشارع بالقانون ضد المنحرفين بشتى أنواعهم وأشكالهم. ومن الأهمية بمكان هنا أن أشدد على أهمية عقد ما يسمى ب"دورات الإشراف الناجح وسلوكيات العمل والمهنة السوية"، وهي مجموعة من الدورات في شكل ورش عمل ومحاضرات وندوات يمتزج فيها علم الأخلاق بالمنطق والسلوك وأصول الشريعة الإسلامية التي توضح طرق التعامل بين الناس بعضهم البعض، وسرد الأمثلة العظيمة من سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم لاستخلاص العبر الموجودة بها. إن مثل هذه الندوات والمحاضرات وورش العمل يجب أن نبدأها مع رجال الشرطة والأمن ولكل رجالات الحرس البلدي والجوازات وموظفي الدولة في المحليات الذين لهم علاقة مباشرة بالتعامل مع المواطن. وكذلك يجب أن يدرسها الطالب في نهايات سنواته الدراسية قبل تخرجه خاصة الأطباء وكليات ومعاهد التمريض والقانونيين وغيرهم من الطلبة؛ لأنه من الأهمية بمكان أن يتعامل بعضنا البعض بالأسلوب الحسن، وأن لا نفرق بين إنسان وآخر في المعاملة خاصة في المرافق العامة. إن ليبيا ومجتمعها العربي الإسلامي الأصيل غنيّ بتلك النماذج، لأننا تربينا في مجتمعنا على هذه الأخلاق منذ صغرنا نحترم الكبير والجار ونسعى لمساعدة الضعيف (ونفزع) لنصرة المظلوم أو من وقع له حادث أو اعتدى عليه، هكذا تربينا أن نحيي كل من نمرّ عليه، وأن نواسي الجار والصديق في مصابه، ونقف معه ونفرح لفرحه، ونشاركه فرحته. لماذا انتهت هذه المظاهر الآن؛ لأن البعض منا لم ينقلها إلى أبنائه كما تعلمها من والديه، ولكن الوقت مازال أمامنا لإعادة الأمور إلى نصابها ووضعها الصحيح، فلنتكاثف جميعًا وزارات مختصة ودوائر إعلامية ومؤسسات مجتمع مدني ولنبدأ من الآن. [email protected]