الإعلان الدستوري: الهروب إلى حافة الهاوية لم يكن لجوء مرسي إلى التصعيد الأخير، بخروجه على مصر بالإعلان الدستوري، بعيداً عن الفشل الذي بدت مظاهر شتى له خلال رئاسته. ويمكن اعتباره محاولة للهروب من هذا الفشل.
فبرنامج "النهضة" تمخض عن وهم كبير، واتضح أنه لا يوجد مادة حقيقية له. لا توجد أوراق متكاملة أو حتى خطط سابحة في الفضاء النظري لسد الخانات.
وبرنامج المائة يوم بدوره انتهى إلى فشل ساحق، وظلت ملفات مثل الأمن والمرور والنظافة تواصل تدهورها باطراد. وبدلاً من الخطوة الأولى الضرورية في الاتجاه الصحيح، وهي الاعتراف بالخطأ، فقد انطلقت جوقة لا تكتفي بالتبرير والتذرع بأعذار واهية، بل اندفعت مهاجمةً من يجرؤ على التساؤل عن إنجازات الأيام المائة، ومشككة في وطنيته.
أما الاقتصاد فقد استمر على الحالة التي تركها تحالف العسكر والإخوان، مهتزاً واهناً. وتفاقمت صعوبات المعيشة يوماً بعد الآخر. وبدا أنْ لا خطة لدى الإخوان للخروج من المأزق الاقتصادي، وظلت الاستدانة واستجداء القروض والمنح والودائع من هنا وهناك هي عنوان الجهود الاقتصادية للجماعة التي زعم قادتها انهم قادرون على ضخ 200 مليار دولار من داخل مصر في الاقتصاد بمجرد توليهم الحكم.
وارتبطت مفاوضات الإخوان مع صندوق النقد الدولي بعبث سياسي تمثل في الحديث عن إباحة القروض أو حرمتها، بما بدا معه الدين مجرد مطية للتيارات الدينية تستخدمه في تحقيق أغراضها فتُحرِّم وتحلل كما يحلو لها. كذلك ارتبطت المفاوضات مع الصندوق بالغموض وإخفاء التفاصيل عن الشعب، في استمرار لأسوأ ما في النظام السابق.
لم تكن العلاقات الخارجية أحسن حالاً. وربما يكون ملف العلاقات مع إسرائيل دالاً هنا، فقد صُدم المصريون مرات في الأسلوب الذي كانت الجماعة ذات التاريخ الصاخب لفظياً في معاداة إسرائيل تتعامل به مع الجار المحتل لإحدى أقدس البقاع الإسلامية. وفي هذا السياق، جاب خطاب مرسي الحميمي لبيريز، الذي وصف فيه بيرير ب"عزيزي وصديقي العظيم"، وأعرب عن تمنياته "لشخصكم (يقصد بيريز) بالسعادة ولبلادكم بالرغد"، ليشكل فاجعة تركت في النفوس مرارات وفي العقول تساؤلات.
في معسكر قريب كان السلفيون يعانون التصدعات، وتعرض حزب النور لخلافات خرجت إلى العلن، وتبادل قادته الاتهامات المشينة بالعمالة والتنسيق مع أمن الدولة. وبدا أن تحالف الإسلاميين يخسر بعض أسسه، والباقي على الطريق، فالخلاف السلفي-الإخواني هو خلاف محتم على أي حال، سواء حول الأيديولوجيات المختلفة، بل المتعارضة، أو الخلاف الحتمي على توزيع المكاسب والمناصب. وقد شهدت الانتخابات الرئاسية بوادر لانفضاض تحالف الإخوان والسلفيين، إذ دعم حزب النور مرشحاً منشقاً على الإخوان في الجولة الأولى، قبل أن يتوحد الطرفان بفعل بروز شبح عودة الدولة القديمة ممثلة في شفيق.
أحوال كهذه كانت تُفقد مرسي كذلك قطاعاً كبيراً من المصريين غير المسيسين، الذين انتخبوا مرشح الإخوان المسلمين لمزيج من الدوافع، منها كراهية النظام السابق، وإعطاء فرصة لتيار سياسي أجزل الوعود بحل مشكلات مصر بسرعة، إلى جانب شعور ديني قوي عند المصريين يجعل الملتحفين بالدين يكسبون نقاطاً أولية قبل أن تبدأ أي معركة. هذا القطاع العريض من المتدينين بدأ يفقد تدريجياً ثقته بمرسي وجماعته مع الارتباك والفشل الذي سيطر على أدائهما.
في ظل هذه الظروف، ربما لم يكن أمام مرسي، وقد حزم أمره على الاستئثار بمصر، غير الهروب إلى الأمام، والإقدام على مخاطرة يظنها محسوبة، بالإعلان الدستوري، أو بالأحرى الانقلاب الرئاسي الذي دخل بمصر إلى أزمتها.
كان مرسي والجماعة في حاجة إلى إيقاف الأسئلة المتصاعدة عن التزامات النظام ومسؤوليته عما تشهده مصر من تدهور، وإعادة صياغة المعركة لتدور حول أسئلة تتعلق بالأيديولوجيا والدين، ليعيد ترميم تحالفه مع السلفيين، وليستعيد الفريق الذي تلعب عواطفه الدينية الدور الأكبر في تحديد اصطفافاته. وحين يكون الاختيار بين "الإسلام" و"أعدائه"، كما ستصوِّر ماكينة الدعاية الإخوانية، فإن قطاعاً عريضاً ممن بدأ مرسي خسارتهم سيعود إلى مناصرة الجماعة التي "تذود عن حوض الدين".
انقلاب "الإعلان الدستوري" كان محاولة من مرسي لتغيير طبيعة المعركة. وبالمزج بين دعاوى "الشرعية" التي يحوزها مرسي بالانتخابات، والميليشيات بأفرادها الغلاظ الشداد الذين لا يعصون المرشد ما أمرهم، والقدرات التنظيمية الكبيرة، يمكن عبور عنق الزجاجة الذي وصلت إليه الجماعة، وتسجيل نصر على القوى المدنية، وكسب بعض الوقت ريثما يأتي حل لا يعلمه الإخوان المسلمون تحديداً، لكن يمكن أن يأتي به الغيب. والظروف الاستثنائية التي ستصاحب ذلك ستعطي مبرِّراً، ولو وقتياً، لعجز الحكومة المتوقع عن مواجهة المشكلات الحياتية التي تتراكم يوماً بعد يوم.
كان الإعلان الدستوري، محاولة لكسب الوقت، وفرض واقع جديد بالقوة. ولكن الجماعة أثبتت أنها لا تحسن قياس العواقب، فوقع ما وقع من قتل تسببت فيه جحافل الإخوان التي شحنتها الأتوبيسات، وكان الرئيس يستطيع أن يراه من شرفته لو جرؤ على أن يطل منها.
تلطخت الشرعية الانتخابية بالدماء، التي قد لا تستطيع "كل عطور جزيرة العرب" أن تزيلها عن يدي مرسي، شأنه شأن ماكبث المندفع بجنون الرغبة في الحكم. وبدت حافة الهاوية التي حاول مرسي أن يدفع إليها معارضيه وكأنها تفغر فاها لما يُشبه التهامه هو، لا الآخرين. وللكلام بقية.