ظل عالم الطب الشرعي مبهمًا لدى البعض، لا يعرفون عنه سوى التقارير التي تُنشر في الحالات الجنائية الشهيرة، خاصًة قضايا الرأي العام، إلى أن حضر"زينهم" بست جرائم، عرُضت على عدة حلقات من المسلسل الشهير الذي يحمل إسم واحدة من أكبر مشارح الطب الشرعي في مصر. لم تكن حلقاته من وحي خيال مؤلف درامي، بل هي من معايشة حقيقية للدكتور محمد جاب الله، استشاري الطب الشرعي والسموم الإكلينيكية، الذي أُخِذت عن روايته "أصدقائي الموتى شكرًا" سيناريو "زينهم"، ولكن بعد خضوعها لمعالجة درامية. في أول حوار للدكتور محمد جاب الله، كشف لموقع "الكونسلتو" حقيقة قصص أصدقائه الموتى، والشعرة الفارقة بين الحقائق الطبية والحبكة الدرامية. وإلى نص الحوار: 1- هل "زينهم" يجسِّد شخصيتك بالفعل كطبيب شرعي؟ بنسبة كبيرة نعم، لأن القصص التي واجهها هي التي عايشتها في الحقيقة على مدار فترة عملي لأكثر من 17 سنة في مجال الطب الشرعي، ولكن بالطبع هناك إضافات وضعها الكاتب محمد سليمان عبد الملك، مثل قضية والد زينهم. 2- ما أول قضية قابلتها في المشرحة في بداية عملك؟ وهل تم عرضها في المسلسل أم لا؟ قضية الطفلة أحلام التي عُرضت في الحلقات الأولى، وصلتني آنذاك كرتونة بها عظام وجمجمة، وُجِدَت في أرض زراعية، وظللت أنظر اليها كل يوم على مدار أسبوع، وأسأل نفسي "كيف حجم الجمجمة لا يتناسب مع السن المتوقع؟ وظلت أشياء بداخلي تؤجل كتابتي للتقرير، للتأكد من حقيقة السن، ورسمت تخيُّلًا للحادث أكثر من مرة، حتى قمت بالكشف عن الأسنان، مثلما حدث في أحداث المسلسل. وقتها اتصلت فورًا بوكيل النيابة لأخبره بالقصة كاملة، وبأن الطفلة عمرها 7 سنوات وتم حرق ملابسها بعد الوفاة وطبيعة الطعنات التي حصلت عليها وأودت بوفاتها. 3- هل بالفعل يحدث حوار بين الطبيب الشرعي والجثث التي يتعرض لها خلال عمله؟ ليس حوارًا بالمعنى الحرفي كما حدث بالمسلسل، ولكن يحدث نوع من التواصل النفسي مع الجثث، نحن لا نسمعهم ولكن نعتمد على العين واللمس فقط، ثم تعتمد كطبيب شرعي على خيالك في تصور الحادث وفقًا لما تراه وتلسمه أمامك. هذا الحوار الداخلي الذي يتم هو ما تم عرضه على أنه إشارات من الجثث في المسلسل، صحيح أن الجثامين قد تعطي مفاتيح لحل لغزها، ولكن ما عُرض هو تجسيد لخيال الطبيب الشرعي. 4- هل العمل في الطب الشرعي صعب وله بعض المخاطر؟ بالعكس هو ممتع بشكلٍ كبير، أحببته منذ أن كنت طالبًا، خاصةً أنه لا يعتمد فقط على المعلومات الطبية، بل يتطلب دراسة عدة علوم أخرى، مثل الفيزياء والكيمياء. فعندما نذهب لرؤية جثة مدفونة، لا بد أن نكون على دراية أيضًا بدراسات الطقس، لمعرفة متى دفنت؟ ومدى تحللها أو لماذا لا تزال بنفس حالتها؟ 5- ما أغرب الحالات التي واجهتك كطبيب شرعي بخلاف التي عُرضت في مسلسل زينهم؟ "زادت غرابة الحالات التي تمر علينا كلما زادت بشاعتها"، أتذكر عندما تم تحويل أحد الأشخاص إلينا، للتأكد من تعاطيه أدوية مخدرة من عدمه، وهل هو مصاب بهلوسة أم يتحدث عن قصة حقيقية؟ أثناء الكشف عليه وقتها بدأ يقول "مراتي طلبت أجيب لها تليفزيون وعصبتني وموتها، بس هما بيقولوا إنها لسة عايشة، طمنوني عليها دي حامل"، لم نأبه لحديثه في ذلك الوقت. وفي اليوم التالي، جاءتني جثة سيدة تم طعنها حتى الموت، ولم نكن نعرف الرابط بين القضيتين، حتى وجدت بطنها منتفخة وبدأت بالتفكير أنها قد تكون من التعفن بعد الموت، إلى أن اكتشفت أنها كانت حاملًا في الشهر الثامن، وأن الرجل الذي كشفت عليه بالأمس هو زوجها الذي قتلها. حالة أخرى أتذكرها كانت لأب و4 أبناء توفوا وعلى أيديهم علامات انتحار بقطع الشرايين، وقتها كانت قضية مثيرة للدهشة، لأن من بين الضحايا أطفال في عمر 7 و10 سنوات لا يعرفون معنى الانتحار بهذه الطريقة. وبعد الكشف التشريحي لهم، اتضح أن الأب وضع لأبنائه منومًا في الطعام، وبعد نومهم قطع شراينهم وانتحر بسبب أنه كان مريضًا نفسيًا. 6- ما أشهر العلامات الأولية التي تشير إلى سبب الوفاة بالنسبة للطبيب الشرعي؟ أشهرهم بالطبع الشنق، فيكون أولى علاماته وجود آثار على الرقبة وتلون اليدين والقديمن باللون الأزرق، بالإضافة إلى الحوادث شديدة الصدمة، مثل السقوط من مكان مرتفع أو الدهس بالسيارة، حيث يكون فيها اعوجاج واضح وتوشه في الأطراف، نتيجة للارتطام. علاوة على ذلك، الطلقات النارية، لا بد أن يكون هناك مدخل ومخرج للطلقة، فمثلًا جاءتنا يومًا جثة لرجل مصاب في رأسه، للوهلة الأولى تعتقد أن سبب الوفاة هي تلك الإصابة الكبيرة في الرأس، ثم بدأنا نبحث ما إذا كانت طلقة، وبالرغم من أن شكل الجثة سليم من كل جهة إلا أنه بمجرد الكشف داخل فمه وجدنا مدخلها، فالضحية مات منتحرًا عن طريق ضرب رصاصة في الفم.؟ 7- هل كتاب "أصدقائي الموتى شكرًا" هو خلاصة تجربتك في مجال الطب الشرعي؟ ليس كلها، لأني قمت منذ فترة بنشر كتابي الثاني الذي يحمل إسم "حكايات الشاهد الأخير"، يشمل 7 قصص لجثث أخرى وطبيعة موتهم. 8- لماذا اخترت هذا الاسم تحديدًا لكتابك الأخير؟ لأن الطبيب الشرعي هو فعليًا الشاهد الأخير على أي واقعة، فمن بعد تقريره يتم دفن الجثة مباشرة. 9- علميًا وطبيًا.. هل يمكن سرقة أعضاء المتوفي مثلما حدث في المسلسل؟ بالطبع لا، ليس بهذه السهولة، بخلاف استحالة حدوثها في المشرحة، غالبًا ما تأتي إلينا الجثث بعد مرور 12 - 24 ساعة، ما يجعل الأعضاء فاسدة، لأن أجهزة الجسم تظل محتفظة بحالتها لمدة تتراوح بين ساعتين و4 ساعات فقط وفي عوامل حفظ مثالية، ولكن المسلسل عرضها بهذا الشكل، من أجل الحبكة الدرامية فقط ليس أكثر.
