تسير المرحلة الثانية من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بما لا تشتهيه كييف وحلفاؤها الغربيون، في ظل قضم الجيش الروسي للمزيد من الأراضي في شرق البلاد، وانسحاب الأوكرانيين الاثنين من وسط مدينة سيفيرودونتسك الإستراتيجية التي ستحسم فيها معركة السيطرة على إقليم دونباس، ما يعني حسب مراقبين تحقيق بوتين لأهدافه بما يمنح بلاده أفضلية في مفاوضات وقف إطلاق النار وخروج المنتصر من الحرب في أوكرانيا التي ستضع أوزارها وفقا لهذا السيناريو. قال الجيش الأوكراني صباح الاثنين إن قواته انسحبت من وسط سيفيرودونتسك بعد أيام من المعارك العنيفة التي تلت الهجوم الروسي على هذه المدينة الإستراتيجية في شرق البلاد، والتي ستشكل خسارتها ضربة قاصمة للسلطات في كييف وخسارتها لمعركة دونباس. وفي حال سقوط هذه المنطقة في يد الروس، تكون المرحلة الثانية من العملية العسكرية التي بدأت في 24 فبراير/شباط، قد سارت وفقا لما خطط له وبما يريده بوتين وقادته العسكريون ومحيطه في الكرملين، أي إعلان انتصار يبيض وجه الدب الروسي أخيرا أمام شعبه ويمنحه خروج المنتصر من المستنقع الأوكراني، فيما سيغض المجتمع الدولي والغرب وفق مراقبين، الطرف مرة أخرى كما حدث مع شبه جزيرة القرم في 2014، فاسحا المجال أمام مفاوضات قد تطول. ومع تقدم الجيش الروسي في سيفيرودونتسك، هل اقترب سقوط دونباس وما التداعيات؟ وبعد استنفاد ترسانتها من الأسلحة السوفياتية هل يمكن لأوكرانيا أن تعول بشكل كامل على أسلحة الغرب؟ وماذا عن التدريب على تلك المعدات ومخاوف الغرب من سقوط أسلحة حديثة بيد الروس؟ وهل سيتكرر سيناريو القرم في دونباس وتنتهي الحرب بسقوط الشرق الأوكراني؟ أسئلة يجيبنا عنها كل من الخبير العسكري والاستراتيجي فرحات إلياس، الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي عمر الرداد، الباحث العسكري والاستراتيجي ناجي ملاعب، وخبير الشؤون الأوروبية ومدير مركز بروكسل الدولي للبحوث رمضان أبو جزر. الجيش الروسي يتقدم في سيفيرودونتسك.. هل اقترب سقوط دونباس وما التداعيات؟ يتألف حوض دونباس من جمهوريتين انفصاليتين هما دونيتسك ولوهانسك، ويتكلم معظم سكانه اللغة الروسية، وهو قاب قوسين أو أدنى من السقوط بيد القوات الروسية في ظل تقهقر القوات الأوكرانية التي استنفدت ترسانتها من الأسلحة السوفياتية وتراجعها في مدينة سيفيرودونتسك الاستراتيجية. في هذا السياق، قال الخبير العسكري والاستراتيجي فرحات إلياس: "بعد فشل القوات الروسية في إسقاط كييف تغير جهدها وباتت تركز على إقليم دونباس. وبعد السيطرة على ماريوبول، انتقل الجهد إلى لوهانسك حيث هاجمت القوات الروسية أكبر مدينة وهي سيفيردونستك التي يبلغ عدد سكانها 100 ألف وتضم أكبر مصنع للسماد الكيماوي. من المتابعة تبين أن القوات الروسية سيطرت على معظم المدينة ما عدا مصنع آزوت حيث لجأ إليه مئات العسكريين وبعض المدنيين، ومن المرجح أن يلقى نفس مصير مصنع آزوفستال في ماريوبول. هناك دمار شديد في معظم أبنية المدينة كما يبدو من سير العمليات أن القوات الروسية ستتجه إلى ليسيشانسك وبعدها كراماتورسك وبذلك تستكمل سيطرتها على إقليم دونباس". ولشرح أهمية سيفيردونستك في الحرب الأوكرانية، يقول الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي عمر الرداد إن "تقدم الجيش الروسي في دونباس يعني بالضرورة سقوطها خصوصا مع فتح ثلاث جبهات. هي مسألة وقت أيام أو حتى ساعات. يعتمد هذا على قدرة الجيش الروسي الذي يبني خططه وفق المرحلة الثانية من الحرب التي أعلن الرئيس بوتين أنها ستركز على المناطق الشرقية والانسحاب من كييف وبعض المدن بعد فشل المرحلة الأولى. سقوط دونباس سيكون له تداعيات كبيرة على الحرب حيث إنها تعطي مصداقية لإعلان روسيا التركيز عليها وعمليا تحقيق التواصل بين القرم وجنوب شرق أوكرانيا حتى دونباس وحدود أوديسا التي بقيت المنفذ البحري الوحيد للأوكرانيين المطل على البحر الأسود ". وأضاف الرداد: "سقوط دونباس يعني أننا أمام سيناريوهات أبرزها: الذهاب نحو مفاوضات باعتبار أن الحرب حققت نتائجها في شرق وجنوب أوكرانيا بالنسبة للروس، أو قضمهم للمزيد من الأراضي باتجاه الغرب استعدادا للمفاوضات القادمة". في نفس الشأن، قال الخبير في الشؤون الأوروبية ومدير مركز بروكسل الدولي للبحوث رمضان أبو جزر: "الجيش الروسي تقدم في دونباس بعد أن ركز على سيفرودونتسك والتي يعتبر الروس سقوطها في قبضتهم إعلان انتصار وهو مؤشر يمكن أن يكون مقنعا للداخل الروسي بأنه قد تم تحقيق المطلوب". هل يمكن لأوكرانيا أن تعول بشكل كامل على أسلحة الغرب؟ ماذا عن التدريب على تلك المعدات ومخاوف الغرب من سقوط أسلحتهم الحديثة بيد الروس؟ يرى فرحات إلياس بأن الأسلحة التي قدمتها دول حلف الأطلسي وخصوصا صواريخ "جافلين" المضادة للآليات وصواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات، تصلح لاستنزاف القوات الروسية ولكنها لا تمثل تغييرا جذريا في ميزان القوى على الأرض. وقال محدثنا: "ألمح الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى احتمال تزويد أوكرانيا بصواريخ هيمان التي يبلغ مداها نحو 300 كلم لكن بعد تهديدات روسية أعلن البنتاغون صرف النظر عن الصفقة. بريطانيا أعلنت أنها سوف ترسل صواريخ M270 التي يبلغ مداها 60 كلم ولم ترد أنباء عن دخولها في العمليات بعد. سبق وأن جهزت الولاياتالمتحدةأوكرانيا بمدفعية هاوارد المحمولة على الدبابات وتمتاز بمرونة حركية أثناء القتال. لكن نظرا لغزارة النيران في القتال وطول الحرب حتى الآن، من المتوقع أن تكون أوكرانيا قد استنفدت مخزونها من الأسلحة الروسية الصنع والتي يمكن استكمالها من خلال دول أوروبا الشرقية مثل بولونيا وبلغاريا ورومانيا وغيرها. بالنسبة للأسلحة الأمريكيةوالغربية عموما، يمكن التدرب عليها خلال فترة أشهر لكن تكتيك استعمالها يتطلب وقتا أطول". من جانبه قال عمر الرداد: "الناتو كان يحبذ تخلص أوكرانيا من السلاح الشرقي السوفياتي وقد أرسلت بولندا مثلا دبابات T72 وصواريخ S300 وقد تم استنفاد هذه الأسلحة والتخلص منها ما يفتح الباب أمام إرسال أسلحة جديدة. ليس أمام أوكرانيا من خيار سوى الاعتماد على الأسلحة الغربية وقد لاحظنا خلال المرحلة السابقة إرسال كميات كبيرة من تلك الأسلحة من صواريخ وطائرات مسيرة وصواريخ مضادة للسفن. أعتقد أن تصريحات البنتاغون والدول الغربية فيما يخص هواجس سقوط أسلحة متطورة بيد الروس واضحة بهذا الشأن وهي لا تريد إرسال أسلحة دقيقة ومتطورة وتصر على إرسال أسلحة تستهدف مشاغلة القوات الروسية في حرب استنزاف داخل أوكرانيا. الأسلحة التي سترسل من الغرب هدفها خلق جيوب للمقاومة الشعبية بما في ذلك مناطق السيطرة الروسية في الجنوب والشرق ضمن حرب سجالية. الناتو أعلن صراحة أنه يجري تدريب قوات نخبة أوكرانية في القواعد الأمريكية الموجودة بألمانيا ودول الحلف، على استخدام الأسلحة الغربية مثل مدافع هاوتزر وطائرات فليكس المسيرة والرادارات الجديدة. وهي أسلحة لا تحسم المعركة لكنها تعمل على تحقيق أهداف حرب الاستنزاف طويلة الأمد". بدوره، يرى رمضان أبو جزر بأن الترسانة السوفياتية للقوات الأوكرانية لم يكن لها أن تصمد أمام الأسلحة الروسية الحديثة المتطورة وكم الهجوم الروسي العددي والنوعي. ويقول أبو جزر: "أوكرانيا كانت ولا زالت بحاجة إلى أسلحة غربية متطورة يسهل التعامل معها ويمكن التدريب عليها في زمن قياسي. هناك خطر سقوط بعض تلك الأسلحة في أيدي القوات الروسية. لكن من الضروري إمداد القوات الأوكرانية بشكل سريع لتعطيل الهجوم الروسي، وهو ما حدث بالفعل حيث تلقت روسيا خسائر كبيرة وغيرت من تكتيكاتها وأدخلت أسلحة متطورة وصواريخ بعيدة المدى في المعركة لأنها لم تتوقع حجم الصمود الذي أثبته الجيش الأوكراني". في نفس الإطار، قال الباحث العسكري والاستراتيجي ناجي ملاعب: "تم تدمير نسبة كبيرة من الأسلحة السوفياتية التي كانت تملكها أوكرانيا. والسلاح الغربي سيعوض ويحدّث قدرات القوات الأوكرانية لكن هناك في المقابل أيضا أسلحة روسية متطورة تعمل على منع وصول الأسلحة الغربية وتدميرها وضربها في مناطق تسليمها. أوكرانيا تلعب دور الوكيل عن الولاياتالمتحدة والناتو لإشغال روسيا بالحرب. لا أرى أن الأسلحة الغربية قد تحدث أي تغيير في ميزان القوى الحالي في حرب أوكرانيا. الهدف إنهاك وإلهاء روسيا في الحرب". هل سيكرر بوتين سيناريو القرم في دونباس وهل ستنتهي الحرب بسقوط الشرق الأوكراني؟ يعتبر الخبير العسكري والاستراتيجي فرحات إلياس بأن هناك اختلافا واضحا بين سيناريو القرم وما يجري في دونباس. ويقول ههنا: "في القرم سيطرت القوات الروسية من دون أية مقاومة تذكر من قبل الوحدات الأوكرانية وسارعت إلى إجراء استفتاء وضم شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي. أما في دونباس فإن القوات الروسية تواجه مقاومة عنيفة من القوات الأوكرانية من جيش وميليشيات يمينية قومية. كما هناك أيضا قتال شوارع يؤدي غالبا إلى خسائر في الأرواح وتدمير في المباني والمنشآت. لذلك فإن الوضع مختلف لكن يبدو أن مصير دونباس بالإضافة إلى خيرسون وساحل بحر آزوف هو الانضمام إلى الاتحاد الروسي تماما مثل القرم". في المقابل، قال الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي عمر الرداد إنه من المؤكد أن الرئيس بوتين سيذهب باتجاه إعادة إنتاج سيناريو القرم في دونباس، وقد تم تجهيز ذلك من خلال إعلان الاعتراف بالجمهورية الانفصالية والحديث عن إجراء استفتاءات لاحقة حول الانضمام إلى روسيا. ويقول محدثنا ههنا: "يجب أن نتذكر أن غالبية سكان مناطق دونباس والجنوب الأوكراني يحملون الجنسية الروسية، حوالي مليون شخص من أصل ثلاثة ملايين. منذ حرب القرم عام 2014 والروس يجهزون لهذه المعركة بصيغة أو بأخرى ويدركون أن الحرب قادمة لا محالة وكانت مسألة وقت وتحديد الزمان المناسب للمعركة". وأضاف الرداد: "مسألة انتهاء الحرب بسقوط الشرق الأوكراني تعتمد على أكثر من عامل أهمها نتائج المفاوضات الروسية الأوكرانية عبر وسطاء مثل تركيا وغيرها من الدول. تقديري أن الأجواء العامة بعد سيطرة روسيا على دونباس هي أنها ستكون في وضعية مفاوضات أفضل ويصبح بإمكان بوتين والقيادة الروسية تقديم شيء أمام الشعب الروسي فيما يتعلق بالمرحلة الثانية وربط النتائج أي السيطرة على دونباس بما أعلنه بوتين من أهداف، لكن هذا مرهون برد الفعل الغربي مثل ما ورد من تصريحات بريطانية وغربية لم تطالب فقط بإعادة دونباس فقط وشرق أوكرانيا بل باستعادة القرم. بذلك تبقى السيناريوهات مفتوحة وربما تستمر المعارك لكن من المؤكد أن دافعية الجيش الروسي باعتباره قد حقق أهدافه، سيتقرر خفض العمليات العسكرية والتفرغ في المناطق الانفصالية لمرحلة الضم لروسيا أو تثبيت أركان الدولة الجديدة. هذا رهن برد الفعل الغربي ويبدو أن الناتو مستعد لمثل هذه الاحتمالات وشروط التفاوض للتوصل لاحقا إلى أرضية لوقف الحرب". من جانبه، قال مدير مركز بروكسل الدولي للبحوث رمضان أبو جزر: "من غير المستغرب أن تكون دونباس على طريق القرم. هذا السيناريو متوقع ويمكن أن يتعامل معه المجتمع الدولي والغربي كما تعامل مع القرم. في حال سيطرت روسيا على دونباس والشرق الأوكراني الذي سيشكل بداية وقف إطلاق النار ونهاية الحرب، فإن المجتمع الدولي سيتفاوض مع روسيا من جديد على غرار ما حدث في القرم. الكل سيكون سعيدا لأن صوت المدافع سيكون قد هدأ مع عودة اللاجئين وبداية إعادة الإعمار. إن الدول الغربيةوروسيا هم في انتظار مرحلة ما بعد سقوط دونباس وهذا مؤشر على أنها ستسقط خلال أيام أو أسابيع بشكل نهائي وهو ما حذر منه زيلينسكي مرارا". بدوره، يرى الباحث العسكري والاستراتيجي ناجي ملاعب بأن سيناريو القرم سيتكرر في دونباس، ويقول ملاعب ههنا: "بالتأكيد هذا ما يجري الآن وهو مستمر منذ أن تم ضم القرم إلى روسيا. مستقبل هذه المنطقة إذا ما استمر الجيش الروسي في التقدم وتحقيق الانتصارات على الأرض سيكون بيد الدب الروسي، دون أن تتمكن الحكومة الأوكرانية ولا الغرب من منع ذلك، حيث إن إعلان استقلال الجمهورية الانفصالية في دونباس سيعقبه ضمها إلى الاتحاد الروسي".