قبل نحو 6 آلاف عام برع المصري القديم في فلاحة الأرض، وكانت سبيله لصناعة مجد وحضارة خلدها التاريخ، وظلت ليومنا هذا مثار اندهاش وإعجاب العالم، ولكن "دوام الحال من المحال"، فتدهورت الزراعة في بلاد "طيبة"، وأصبح المزارع من أقل فئات المجتمع دخلا، وأكثرهم تهميشا، مشاكله لا حصر لها تتفاقم رويدا رويدا، بينما وعود الحكومات المتعاقبة بإصلاح حاله لا تنقطع. في أقصي جنوب البلاد حيث عاصمة مصر القديمة "طيبة"، مدينة الخيرات والقصور، والأبواب المائة، مدينة الأقصر، التي ظل سكانها يعتمدون على الزراعة جنبا إلى جنب مع السياحة كمصدران وحيدان للدخل، حتي كتابة هذه السطور، تكاد تكون هي المحافظة الوحيدة التي لا يوجد بها قطاع صناعي، اللهم سوي مصنع السكر الذي يعتمد بالأساس على الزراعة. يتحسر المزارعون في محافظة الأقصر على الأيام الخوالي، بعد أن أصبح حالهم لا يسر عدو ولا حبيب، فالديون تراكمت، والأسمدة الزراعية شحت، والرقعة الزراعية تآكلت وفي خلال الأعوام الأربع الأخيرة بلغت حالات التعدي على الأراضي الزراعية نحو 19 ألف حالة تعدي، ابتلعت أكثر من ألفي فدان من الرقعة الزراعية بالمحافظة، جزء كبير منها قام مزارعوها بتبويرها بغرض بيعها كأرض بناء في ظل ضعف الدخل الذي توفره له الزراعة. تبلغ المساحة المزروعة بمحافظة الأقصر 144733 فدان، من إجمإلى 350936 فدان هي المسطح الكلي للمحافظة بدون الظهير الصحراوي، وتبلغ المساحة المنزرعة بمحصول القصب 62189 فدان، بينما تبلغ المساحة المنزرعة بمحصول الذرة الشامية 22791 فدان، في الوقت الذي تبلغ فيها المساحة المزروعة بمحصول القمح 43911 فدان، في مقابل 5 آلاف فدان طماطم و4 آلاف فدان موز. أحمد محمد - أحد كبار مزارعي قصب السكر بالأقصر يقول: "نعاني نحن المزارعون من مشاكل الري ونقص الأسمدة وانخفاض سعر طن قصب السكر وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج في السوق السوداء وديون بنك التنمية والائتمان الزراعي وغيرها من المشكلات التي لا تتوقف الحكومات المتتالية عن الوعود بحلها بينما تذهب هذه الوعود أدراج الرياح". يضيف محمد: "فيما يخص مشكلة نقص الأسمدة الزراعية تحتاج محافظة الأقصر إلى 5 آلاف طن سماد سنويا لزراعة 62 ألف فدان من محصول القصب لا يصل منها سوي 3500 طن فقط بنسبة عجز تصل إلى 1500 طن يتحملها الفلاح بشرائه لباقي الأسمدة على حسابه الخاص بأسعار مرتفعة" . بينما يلتقط محمد الراوي - مزارع آخر، طرف الحديث قائلا: "مشاكل المزارع ملهاش حصر لكن المشكلة الرئيسية دلوقتي فلوسنا اللي عند مصانع السكر تعبنا وتعب عيالنا طول السنة اللي فاتت الديون زادت وبيوتنا بتتخرب ومحدش سائل فينا". يضيف الراوي: "المصانع اللي بتكسب بالمليارات مش قادرة تدفعلنا 400 جنيه تمن طن القصب اللي اتحملنا طول السنة هم ريه وسماده وتكاليف شحنه ونقله للمصنع". موسي أبو قرين - وكيل مؤسسي اتحاد منتجي قصب السكر والعمال الزراعيين بالصعيد، يقول إن مشاكل المزارعين في الأقصر كما في مختلف محافظات الجمهورية ليست فقط منحصرة في مشاكل الأسمدة والري وإنما المشاكل أعمق من ذلك بكثير يأتي على رأسها تفتت الرقعة الزراعية فمن كان يملك 5 أفدنة في ستينيات القرن الماضي أصبحت حيزاته لا تتعدي بضعة قراريط حيث أثبتت الدراسات أن من يملكون حيازة أقل من 3 أفدنة هم 85 % من المزارعين في مصر ما أثر بشكل سلبي على انتاجية المحاصيل الزراعية ودفع أغلب أبناء المزارعين لترك هذه الأراضي وتفضيلهم السفر للعمل في دول الخليج العربي خصوصا في ظل عدم تمتع المزارع بأبسط حقوقه في تأمين صحي ملائم ومعاش اجتماعي يضمن له العيش الكريم . ويشير أبو قرين إلى استمرار معدل تدني دخل المزارع بشكل كبير خلال السنوات الماضية فعلى سبيل المثال أثبتت دراسة بحثية أعدها أن صافي ربح فدان القصب الذي ينكفئ المزارع على رعايته طوال العام على لا يتخطي ال2000 جنيه بمتوسط شهري 160 جنيه رغم أن محصوله يدر أرباحا طائلة للمصانع التي تنتج 21 سلعة منها السكر والخشب الحبيبي والورق والعسل والسيبرتوا وغيرها. ويتابع أبو قرين: "رغم أن الحكومة عمدت العام الماضي لزيادة سعر طن قصب السكر من 360 جنيه ل400 جنيه إلا أن هذه الزيادة واكبها زيادة في أسعار مستلزمات العملية الزراعية ضاعفت من معاناة المزارعين حيث أن الأسمدة زادت بمعدل 33% والسولار بمعدل 63% والكهرباء بمعدل 35% ما أدي بالتالى لزيادة أعداد المزارعين المتعثرين الذي يزيد عددهم في الأقصر وحدها عن الألف مزارع مهددين بالسجن". بينما يطالب رشدي عرنوط - نقيب فلاحي الأقصر ونائب النقيب العام للفلاحين، بضرورة أن تعمل الحكومة على تشجيع المزارعين للتوسع في الزارعة لا العكس وأن تسعي لتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة حتى يحقق المزارعون هامش ربح مناسب، إلى جانب العمل على استنباط أصناف جديدة من المحاصيل تتلاءم مع الأراضى الجديدة وتعطى إنتاجية عالية، وتوفير الآلات الزراعية الحديثة لخفض تكاليف العمالة والإنتاج والاهتمام بالإرشاد الزراعى وتفعيل دوره على مستوى المحافظات لنقل التوصيات العلمية للمزارعين والتعريف بالأصناف الجديدة المستنبطة، إلى جانب توفير قاعدة بيانات يستفيد منها المزارعون لتحقيق زيادة الإنتاج بالأراضى الجديدة.