أخذ يقلب فى ألبوم صوره الفوتوغرافية القديمة، التى أحضرها قبل أن أجلس معه، قال: "الصورة تحتفظ بريحة الزمان والمكان، الصورة توثق الحدث، فإذا ما خملت الذاكرة نعود إلى ما احتفظنا به من صور، لتنتعش ذاكرتنا من جديد وتسترجع الأحداث بمشاهدة الكاملة. أمسك بمفكرته الشخصية، قلب أوراقها سريعا، حتى وصل لإحدى صفحاتها التى أرخت بيوم 22 أكتوبر 1973 والتي دون فيها زجلا عن الحرب، يوم صدور قرار وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل. يتذكر ذلك اليوم وتعلو وجهه ابتسامة، وهو يقول: "كان الجميع ينتظر قرارا كهذا حيث عمت الفرحة وأطلقنا النيران فى الهواء، كانت أيام الحرب مرهقة للغاية وكنا ننتظرالموت فى أى لحظة، فوجودك فى وحدة عسكرية تقف وجها لوجه أمام خطوط العدو، يعني أنه يجب عليك أن تتوقع الموت فى أى لحظة، وعليك أن تكون مستعدا لغارات طيران العدو، والتى كانت تنفذ غالبا مع أول خيط للفجر. حدق طويلا فى سقف الحجرة، عاودته وبسرعة ذكرى المعركة،أصوات الرصاص، العربات العسكرية، الأشلاء، دماء الرفاق، أحلامهم، حكاياتهم. هو علي عبدالمجيد زيدان، أحد جنود قواتنا المسلحة، والذي شارك فى أربعة حروب خاضتها مصر وهى: " اليمن،67، الاستنزاف، أكتوبر 1973". يقول زيدان: "وصلت وحدتي اليمن يوم 18/5/1965، للمشاركة فى ما يعرف بحرب اليمن، وعادت مباشرة إلى سيناء، كنا أخر فوج من القوات المسلحة المصرية فى اليمن، عدنا للمشاركة فى صد العدوان الإسرائيلى، وشاركت وحدتي فى حرب الاستنزاف، التى وضع خطتها عبدالناصرومخابراته العامة و العسكرية، والتي كان الغرض منها تكبيد العدو خسائر مستمرة، إضافة إلى إنهاكه من خلال القيام بعمليات نوعية يصل بعضها خلف خطوطه، و كان الجيش يناور على خطوط العدو وتستعد وحداته وكتائبه للقتال، فى هذه الأثناء كنت قائد طاقم م/ط 12.7 مضاد للطائرات، وقمت باستلام شئون إدارية بالوحدة، حتى قامت حرب أكتوب، وكان لوحدتي شرف القبض على الجنرال عساف ياجوري، قائد لواء 192مدرع، وإحباط محاولته لتطويق وحدات الجيش المصري، عبرخطة وضعها الجنرال الإسرائيلي: شارون، الذى كان قادما من الشرق عبر ثغره الدفرسوار. يضيف زيدان: "لم نكن نعرف أننا سندخل الحرب ولم يعرف أحد متى ساعة الصفر، وكان من دهاء القيادة أنها جعلت الجنود المصريين والعالم كله يستبعد تماما فكرة أن مصر مقبلة على معركة فى هذا التوقيت، وهومايسمى فى العسكرية بخطط الخداع الاستراتيجى، إلا أن لحظة العبور لن تنسى، فقد كان الجميع يشتاق للشهادة ويذهب للقتال بشهوة، وكان العسكرى المصرى فاتحا صدره للنار، ولن أنسى دور المهندسين المصريين، وأذكر أن جسر العبور الذى كان يتم تدميره كان يستغرق15دقيقة فقط لإصلاحه، بالإضافة إلى أن سلاح المهندسين المصري هزم نظيره الإسرائيلي وتركيباته الهندسية المعقدة التى ابتدعها العدو الاسرائيلى للحيلولة دون وصول القوات المصرية للجانب الآخر من القناة". ويقول البطل زيدان: كل مكان له ذكرى وكل ذكرى لها حكاية ولكل حكاية بطل، والبطل الذى لن أنساه كان أحد أبطال ملحمة " التبة المسحورة " الملازم أول عبد الحميد، فقد كان مستعدا هو وجنوده للمعركة، وفى الموجات الأولى للفرق والكتائب العابرة للضفة الأسيرة كان يلف العلم حول جسده وشاحا، واستطاع وجنوده فتح ممر فى حقل ألغام ليقاتلوا العدو المختبئ خلف فتحات ضيقة لا يظهر منها سوى فوهات المدافع، واستطاع هذا الملازم مع زملائه أن يحتل الجانب الأيمن للنقطة القوية، مؤمنا بذلك موقعا لباقي الأفراد فى السرية أثناء عبورهم القناة لإحتلال باقى النقاط الحصينة، والتصدي للاحتياطي القريب غارسا علم بلاده فى صدر الموقع، وحينما أكتشف ثغره سيخرج منها العدو خلف جنوده، ألقى بنفسه على هذه الثغرة متحملا رصاصات العدو، وسمح ذلك لجنوده أن يمروا سريعا ليتمكنوا بعد ذلك من السيطرة على التبة. ويروي زيدان: "أثناء عبورنا للقناة شاهدنا ضابطا فقد نصفه الأسفل فهرولنا نحوه محاولين إسعافه ولكنه كان يغطي نفسه بالرمال ليدفن نفسه صارخا فى الجميع " أتكلوا على الله.. ربنا معاكم.. ربنا معاكم "" ويؤكد زيدان، أنه كان معرضا للموت فى كل لحظة، لكن الوقت الذى كان فيه الموت قريبا منه حد الالتصاق كان يوم هجوم طائرة إسرائيلية على موقع تمركز مجموعة من القوات المصرية كان زيدان أحد أفرادها، حيث قام قائد الطائرة بخداعهم بإطلاقه كمية كثيفة من الدخان ليوهم الجنود أن الطائرة أصيبت من سلاح المدفعية، وأنها فى طريقها للسقوط، ليخرج الجنود مهللين " الله أكبر الله أكبر" يستكمل زيدان: " لاحظت أن الطائرة لم تسقط وأنها أطلقت كمية من المتفجرات مع الدخان المنبعث، حاولت تحذير زملائى وصرخت " رمت الحمولة.. رمت الحمولة " ولكن لم يسمعني أحد بسبب الصخب واستشهد وأصيب الكثيرين فى هذه الواقعة، وكان من بين من استشهدوا أحد أصدقائي المقربين. وعن إصابته فى الحرب يقول زيدان: "أثناء غارة إسرائيلية على القوات هرول الجميع للحفر البرميلية التى تحمينا من وقع القصف، فطارت شظية ألتصقت بأسفل رأسي مخلفة جرحا عميقا تداركته بسبع غرز، وأجريت لي الجراحة بدون تخدير وبأدوات بدائية للغاية، عدت بعدها مباشرة لمكان خدمتي للدفاع عن وحدتي، فالمعركة لم تكن تتحمل فقدان أى عنصر، فالسبب الوحيد لترك خدمتك هو الشهادة".