بلهجة صعيدية متأصلة وزي صعيدي جلس ''الرشيد محمود'' على مقعد خشبي طويل وبيديه جريدة أو اثنين يتصفحهما؛ يقلب في الورق لعله يعرف ما يحدث هنا وهناك؛ فيصبح مُلماً ببعض الأحداث التي قد يستخدمها كحكايات تٌروى لأصدقائه لقتل الوقت في المستعمرة. بدايته مع المرض 35 عاماً أو يزيد قضاها ''الرشيد'' في مستعمرة الجذام الموجودة بأبو زعبل بمحافظة القليوبية؛ إذ دخلها تحديداً عام 1976 على إثر إصابته، بمرض الجذام المزمن ولم ينتقل بعيداً عنها حتى الآن؛ فأصبحت حياته المهنية والأسرية مرتبطة ببقائه فيها أو بالقرب منها بشكل ما.
''كنت بشتغل في السعودية، وكان وقتها عندي حوالي 25 سنة وجالي دور سخونية فجأة وطلعلي بقع حمراء في أماكن مختلفة من الجسم؛ فكشفت هناك واكتشفوا إنه الجذام، قعدت هناك شوية وبعدين حولوني لمصر؛ عشان قالولي فيها مستعمرة الجذام وهتتعالج وجيت هنا وقاعد فيها من ساعتها''.. قالها ''الرشيد'' الذي لا يزال يتلقى دواء الجذام؛ حيث تبقيه جرعة الدواء خاملاً ولذلك ''الواحد أول ما بيحس بالأعراض بياخد الدوا علطول بس المرض مبيروحش''. معاناة الرشيد
أسيوط هي بلد ''الرشيد'' يذهب إليها أحياناً وأحيان أخرى لا يستطيع الذهاب لأنه '' على حسب الظروف، لو معايا فلوس بروح البلد أقعد هناك شوية وأرجع تاني، لو معييش بتكسف أروح''، فعلى الرغم أن أسيوط هي مولد ''الرشيد'' الأول لكنه استقر في الحضر مع زوجته وعائلته؛ حيث اتخذ مسكناً له في عزبة ''الصفيح'' وهي الأقرب لمستعمرة الجذام.
مهنة ''الرشيد'' رغم بساطتها لكنها توفر له قوت يومه بجانب المساعدات أو الطعام الذي يأخذه من المستعمرة؛ فهو يعمل حارسا لإحدى الشركات بالقرب من المستعمرة؛ حيث أنه ''قبل ما الشركة اللي أنا شغال فيها تيجي تاخد الأرض كنت أنا الغفير بتاع الأرض؛ فصاحب الشركة صعبت عليه فعرض عليا اشتغل حارس للشركة فوافقت ومن ساعتها وأنا فيها من ييجي 20 سنة''.
ثورة على الفساد
رغم أن ''الرشيد'' لم يكمل تعليمه إلا أنه واسع القراءة ويحاول استخدام ما يقرأ للدفاع عن حقوقه؛ حيث وجد في المستعمرة بعض الأخطاء التي حاول مراراً مع بعض زملائه إصلاحها دون نتيجة حتى الآن - على حد قوله - ومن تلك الأشياء ''في مساعدات بتجيلنا عن طريق فعل الخير ومبتوصلناش كلها، واتكلمنا مع المشرف الاجتماعي اللي هنا مرة واتنين وتلاتة ومعملش حاجة، يعني مثلا بيجيلنا تبرعات من بنك فيصل الإسلامي بيوزعوا على كل واحد فينا 50 جنيه، لكن احنا خدناها ناقصة حوالي 35 جنيه كل واحد، ولما سألناهم قالولنا عشان اخواتكوا العاملين في المكان، احنا معندناش مشكلة إنهم يتشاركوا معانا، لكن المشكلة إن الفلوس دي جايه لمرضى الجذام بس مش العاملين ومرضى الجذام''، على حد قوله . يرى ''الرشيد'' أن الإدارة في المستعمرة على الرغم من أنها توفر الطعام والدواء للمرضى إلا أن هناك مستحقات أخرى لهم لا يتحصلوا عليها كاملة فهو ''أنا من فترة طلعت الشركة اللي أنا شغال فيها وقلت لموظف فوق يدور على أسامي الجمعيات الخيرية اللي بتساعدنا ولقى على موقع جمعية ''كاريتاس'' اللي ليها مقر عندنا في المستعمرة هنا إن في 58 جمعية بتساعدنا، وجبت الورق ده كله ووريته للمشرف الاجتماعي وسألته فين مساعدات الجمعيات دي مبنشوفش منها حاجة ؟!''.. قالها ''الرشيد'' مؤكداً أنه لا يريد شيئاً سوى مستحقاتهم الكاملة داخل المستعمرة.
ميدان التحرير
ثورة 25 يناير ليست ببعيدة عن ''الرشيد'' وزملائه وإن كان هو الأكثر تفاعلاً مع أحداثها؛ فهو ''أنا نزلت التحرير 4 مرات عشان أشوف الدنيا هناك وأعرف أكتر عن الثورة، وكنت مبسوط بالثورة بس كنت بقول للناس اللي بتهتف هناك، انتوا في وادي واحنا في وادي تاني، الحاجات اللي انتو بتهتفوا ليها في حاجات أهم منها بالنسبة لنا زي الفلوس والراحة النفسية، لحد دلوقتي مشفتش الثورة عملت حاجة تحسن بيها حالنا''.. هكذا روى ''الرشيد'' رحلته إلى ميدان التحرير . العزلة التي يشعر بها ''الرشيد'' أحياناً غير متعلقة بحتمية بقائه في المستعمرة لأنه لا يبقى فيها إلا أوقات تناول الدواء فقط، أما غير ذلك فله مطلق الحرية في الحركة؛ إنما تلك العزلة متعلقة في الأساس بتعامل بعض الأشخاص معه ومع من مثله من المرضى، خاصة ممن ظهرت عليه تشوهات المرض كتساقط الأطراف أو بعض التشوهات في الوجه. ألم ''الرشيد'' الجسدي من المرض قد لا يعتبر شيئاً إذا ما قورن بألمه النفسي عندما تُساء معاملته من بعض الناس سواء عن قصد أو عن غير عمد؛ حيث ''المريض مننا في بعض الأحيان بيلاقي ناس تبعد عنه أول مرة تشوفه أو يبصوا على إيده فيبعدوا، أنا عن نفسي لما بلاقي كده ببعد عن المكان اللي هو فيه لكن لو سلم عليا أنا بسلم عليه، بتألمني إني أحس إن الناس مش عايزة تسلم عليا وبتخاف مني'' .