نعم، إن هذا هو التسامح الذي يمكن أن يميل إليه ويختاره رجل سليم الفطرة يحب الحق ويؤثر الصدق. إنه يبقى ثابتاً على عقيدته التي يراها صحيحة بصدق وإخلاص وإيمان ويظل متمسكا بها بكل شدة بل يجاهر بها ويدعو إليها الناس بكل جرأة وحماسة ولكن بدون أن يألم غيره ويجرح قلبه أو يشاتمه ويلاعنه أو يطعن في عقائده أو يحول بينه وبين مزاولته شعائر دينه الذي هو عليه.
إن التسامح الحقيقي المحمود هو ما قد جاء به الإسلام وعلمنا إياه حيث يقول سبحانه وتعالى:" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون" ويقول مثنيا على أهل الإيمان: " والذين لا يشهدون الزور * وإذا مروا باللغو مروا كراما" .
وإذا نظرنا ودققنا النظر في سماحة الإسلام في شخص النبي - صلي الله عليه وسلم - لوجدْناها تتجلى في أحسن صورها حينما فتح مكة، فقال لأهلها الذين آذوه أشد الإيذاء: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟))، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال لهم - صلوات الله وسلامه عليه -: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، نِعْم السماحة، ونِعْم العفو عند المقدرة.
وحض النبي - صلي الله عليه وسلم - على التسامح، وحبَّبه إلى المسلمين بقوله وفعله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن ظلم معاهَدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة)).
فالإسلام دين يدعو إلى العفو والصفح عند المقدرة، وأنَّ من يتسامح في حقه ويعفو، ويصفح عن المسيء إليه يكون نبيل الخلق، عظيمَ الشأن، متساميًا عن الدنايا؛
فالإسلام يجيز أن ترد الإساءة بالمثل؛ فتعاقب المسيء بمثل ما آذاك به، ولكن المثل الأسمى في الإسلام أن تُحسن إلى من أساء إليك، وتعفو عمن ظلمك. وهذا هو النبل وكرم الخلق، والعظمة الإنسانية، والتسامح في المعاملة، وليس ذلك من الضعف مطلقًا.
ولذا علينا أن نعامل الناس جميعًا بالرفق، واللين، والتواضع، سواء المطيع منهم والعاصي، والمحسن منهم والمسيء؛ فالإسلام دين التسامح والسلام، دين الرحمة والعفو والعدالة، لا دين القسوة، والغدر، والتعذيب، والظلم.