أفتقدك أيها الشتاء، أفتقدك وأفتقد ليالي المطر الطويلة، حين كنت ثانويا، حين كانت الآمال والأحلام ما زالت وردية، نعم أتذكرها جليّا الآن، أتذكر تلكم الليالي، حين كنت أغوص تحت غطائي المفضّل، جالسا على مكتبى أقاوم نعاس البرد اللذيذ...أبتسم وأنا أتذكر كم كان النوم ذا مذاق خاص حينها...ليس كذلك النوم صيفا، حين يحتار المرء أيصارع حر الصيف أم يصارع ملابسه! وأتذكر كيف كنتُ دائما أستيقظ عاريا، إلا من قليل جدا من الملابس، مع تأكدي من ارتدائي ملابس النوم البارحة....ما هذه؟...أهذه ضحكة؟ آه يا زمن كدت أنسى صوت ضحكتي! أفتقدك أيها الشتاء....أفقتدك وأفتقد معاناتنا اللذيذة مع الطين الذى يملأ شوراع قريتى الصغيرة في طريقي إلى الدروس، نعم فاللغة العربية عند الأستاذ عبد الله...والإنجليزية عند الأستاذ محمود، ولم أكن أبالى بطريقي إلى دروس باقي المواد، حيث كانت خارج القرية، ومنزلي قريب من موقف السيارات. أتذكرنا حين نتسابق من يصل أولا مع احتفاظه بنظافة "الطرمبة"، أتذكر كم كنت أنتظر امتحان منتصف العام في شهر يناير حين تكون أنت فى قمة مجدك وبرودتك، وكم كنت أكره امتحان آخر العام، حيث كان غريمك يتباهى بقوته، نعم كل الامتحانات كريهة ولكن الامتحان والبرودة والمطر والطين، هم مقادير أجمل سعادة بالنسبة لي! أفتقدك أيها الشتاء ....أفتقدك وأفتقد "......." جارتنا، أتتذكرها؟ ...إنها ببالى كما رأيتها آخر مرة، ينساب شعرها حريرا على ظهرها حتى يغطى أعلى حقيبتها المليئة بالكتب، كانت نساء قريتنا تتعجبن من جمال شعرها مع صغر سنها، أتذكرها وأتذكر حبّاتك وهى تصرخ حنينا لشعرها، ولكنني أيضا أتذكر غضبى من حبّاتك تلك حين كانت تشتد وتحزنها، بعد أن تبلل شعرها، وأتذكر كم كنت مستاءً ذات يوم، كان أول يوم تروى فيه ظمأ الأرض فى تلك السنة، بقدر فرحتى بك وبمطرك بعد غياب طويل، بقدر غضبى من غطاء على شعرها، أشعر بالحرج من نفسى الآن حين أتذكر طلبى من "ندى" أن تغطّي ذلك الشعر الذهبى، كم كنت مراهقا أحمق!! أفتقدك أيها الشتاء .....كم حزنت حين ذهبت لزيارتك فى قريتى هذا العام، ورأيتك رثا إلى هذا الحد، لم أر مطرك ولا طينك ولا أطفالك يعبثون، حتى إنني لم أر شمسك بعد المطر! رأيتها ذابلة شاحبة الوجه، لم تكن كشمسك حين كنا نتسابق من يلقى عليها سلاما بعد يومين أو أكثر من مطرك الجميل......لم أرك كما اعتدتك.....أين ذهبت؟ يظل أمام تلك النافذة فى مبناها العالى المطل على الميدان الفسيح، متأملا جماله المؤقت بعد زخّة جعلت الميدان يبرق جمالا، ولكن يظل بريق الماسات على أوراق البرسيم بعد زخّة كهذه لا يقارنه جمال، ولا يفيق سوى على صوت قادم من الخارج: "أستاذ حليم....ختم النسر هنا لو سمحت".