تخلص العالم العربى من ثلاثة منهم، فى تونس ومصر وليبيا. ولا أشك للحظة فى أن المواطنين الثائرين فى سوريا واليمن سيتنازلون عن مطلب إسقاط الديكتاتور أو سيقبلون أن تنتهى ثورتهم دون انتصار حقيقى على طغيان الأسد وصالح. وللسقوط الفعلى أو المنتظر لجمهوريات الاستبداد العربى الكثير من النتائج الداخلية والخارجية التى تستحق الرصد والتحليل. أولا، المرحلة العربية الراهنة هى مرحلة بناء دولة المواطنة الحديثة بامتياز. تخلف العرب كثيرا عن اللحاق بركب الديمقراطية وعانوا طويلا، ومازال بعضهم، من استبداد حكام فرضوا التأخر على مجتمعاتهم ولم يحققوا لا تنمية متوازنة ولا إنجازات سياسية تذكر ومارسوا القمع المنظم ضد المواطنين واختزلوا رباط المواطنة إلى علاقة خوف من الدولة وأجهزتها الأمنية. حكام الجمود كمبارك وبن على وحكام الإجرام كالقذافى وصالح والأسد أعادوا عقارب الساعة إلى الوراء، وهم اليوم يتركون مجتمعاتهم ومؤسسات الدولة حطاما يستوجب إعادة البناء. وما التنازع القائم فى مصر حول مسألة الدولة المدنية وما إعلان المجلس الانتقالى الليبى عن التوجه لبناء دولة عصرية فى ظل فهم إسلامى معتدل إلا دليلان واضحان على الأهمية القصوى لتحديد هوية وطبيعة الدولة الحديثة التى يراد بناؤها. ثانيا، المرحلة العربية الراهنة هى مرحلة التحول الديمقراطى تحت وقع ثورات المواطنين المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان. ليس التحول الديمقراطى بأمر ينجز فى أيام أو أشهر معدودات، ولا ينبغى تقدير سرعته المحتملة بسرعة نجاح الثورة فى إسقاط المستبد. بل هو عملية مركبة تنطوى دوما على تقدم وتراجع وتستغرق سنوات وتشهد تقلبات كثيرة فى هوية القوى السياسية التى تديرها وتحولات مستمرة فى موافقها. التحدى هنا هو النجاح فى التوافق حول خريطة طريق لإدارة التحول نحو تداول السلطة وسيادة القانون والتعددية والعمل السياسى السلمى والعلنى. وهنا تحديدا تتعثر اليوم تونس وكذلك مصر، ولن يختلف الحال فى ليبيا أو سوريا أو اليمن. ثالثا، المرحلة العربية الراهنة هى مرحلة المواطن أو لنقل زمن المواطن. فبعد زمن الرؤساء الخالدين ورؤساء التوريث الذين حكموا مجتمعاتهم كملكيات خاصة ونظروا للشعوب ككم مهمل يلقى له بالفتات ويتوقع منه الرضا، آن آوان تصدر المواطنات والمواطنين للمشهد السياسى وترجمة رغبتهم الكاسحة فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية إلى دولة حديثة ونظام سياسى ديمقراطى. سيستمر التنازع بين المواطنين والقوى التى تحاول تمثيلهم بين طرح إسلامى وآخر ليبرالى، بين توجه نحو إعلاء قيمة الضبط المجتمعى وآخر يريد توسيع الحريات، بين نظام رئاسى ونظام برلمانى، بين تديين (من دين) للحياة السياسية وتنظيم للعلاقة بين الدين والسياسة يضمن الطبيعة المدنية للدولة. إلا أن التنازع هذا لن يحسمه رئيس ديكتاتور أو قوة سياسية تنفرد وتستأثر بالسياسة بمفردها، بل سيظل محل شد وجذب وصراع أتمناه سلميا بين المواطنين. رابعا، المرحلة العربية الراهنة هى مرحلة الاستقلال العربى والتضامن بين الشعوب. دعك من الحديث الفارغ عن رؤساء المقاومة ورؤساء الاستسلام، ففى النهاية لا يختلف الأسد كثيرا عن مبارك ومصلحتهما الوجودية أبدا لم تكن إلا البقاء فى الحكم. دول عربية حديثة ونظم سياسية ديمقراطية، إسلامية أو ليبرالية أو خليط بين التوجهين، ستقدر على التعامل مع الجوار (كل الجوار) الإقليمى باستقلالية وستحاول دوما مستندة للشرعية الديمقراطية صون مصالح شعوبها الوطنية. زمن المواطن فى العالم العربى سيشجع أيا التضامن العفوى والمنظم بين الشعوب بعيدا عن رغبات ونزوات الجهلاء الذين حكمونا طويلا. هنا أيضا التحديات عظيمة، فلا إسرائيل ولا إيران ولا الولاياتالمتحدة وأوروبا اعتادوا على نظم حكم عربية ذات شرعية ديمقراطية وأغلب الظن أن بعضهم على الأقل سيقف فى خانة المناوئين. إلا أن طاقات الأمل والرغبة فى غد أفضل التى تجتاح العرب اليوم قطعا ستجبلنا على النجاح. دعوة للتفاؤل بالنظر إلى المشهد الكبير وبعيدا عن الكثير من تفاصيل اليوم القاتمة فى مصر.