أنغام على البيانو .. للكاتب الروائي أبوالمعاطي أبوشارب كنت أتألم كثيرا وأنا أنظر إلى أبنتي الوحيدة وهى تدفع بكلتا يديها عجلات الكرسي المتحرك بعد أن أجريت لها عمليتين جراحية في قدميها والابتسامة لم تفارق شفتيها وتعليقتها الساخرة المستمرة مع الجميع داخل البيت ، وهى تنطلق بالكرسي المتحرك التي أصبحت لعبتها المفضلة في طرقات المنزل رغم كل ذلك كانت تتابع دراستها بنجاح بالإضافة إلى درستها الحرة للموسيقى بمعهد الكونسرفتوار ، وذات يوم دق جرس الهاتف ورفعت سماعة الهاتف كان المتحدث مديرة معهد الموسيقى لتخطرني بأن أبنتي أدرج أسمها في الحفل السنوي الذي سيقام على مسرح المعهد لعزف مقطوعتها الموسيقية التي درستها هذا العام. كانت أبنتي بجواري أثناء الحديث فطلبت منها لحظة من الانتظار لكي أخطر أبنتى ، وألتفت إليها بنظرات حائرة والألأم تعتسرنى وعرضت عليها الأمر ، وقلت لها بأنك على هذه الحالة لا تستطعين العزف على البيانو وأنتي على كرسى متحرك ولاأحد يعرف أنك على هذه الحالة ماذا أفعل؟ واندفعت بكرسيها المتحرك بطريقة عصبية وهى تدور حول نفسها وتنظر إلى والدموع تتساقط من عينيها وقالت لي : من فضلك يا بابا قل لها أنني جاهزة وسأحضر الحفل السنوي واندفعت إلى غرفتها بكرسيها المتحرك مسرعة بكل قوة.، وقلت لمحدثتي حسنا ستحضر أبنتى الحفل وأغلقت الهاتف ، ودخلت غرفة المطبخ لكي أعد قدح من القهوة حتى أمتص هذه الألأم التي تعانيها صغيرتي ، وأغلقت الباب خلفي وبعد برهة من الوقت سمعت أنغام البيانو تنطلق من حجرة الصالون وفتحت الباب ببطء حتى لا تشعر بي ورأيتها وهى في وضع جانبي وهى تعزف على البيانو كنت أراقب كل حركتها وهى تسبح بأصابعها على البيانو كأنها تصارع الأمواج وكانت تواجها صعوبة شديدة لأنها لا تستطيع استغلال أقدامها للضغط على البدال الأرضي للبيانو لكي تعطى المقطوعة الموسيقية لحنها المميز وتركتها لحالها لكي لا أعكر عليها صفوها دون أن تشعر بي. ومضى الوقت وانتهت من عزفها على البيانو وخرجت من غرفتي وأنا أصفق لها بكل حرارة برافا برافا برافا فاحتضنت أبنتى وهى تغوص في أحضاني وقالت لي : من فضلك يا بابا أن تحضر لي النوتة الموسيقية من حجرتي وعلى الفور لبيت لها النداء مسرعا وأنا أنحني إليها وأقول لها السمع والطاعة يا أميرتي وأحضرتها إليها وأخذت تتصفح النوتة الموسيقية حتى وقعت عيناها على مقطوعة موسيقية أنا أحبها لإرضائي ونظرت إليها بنظرات حادة حتى تعيد ذاكرتها وأغلقت النوتة الموسيقية ، وبدأت تسبح بأناملها الرقيقة على البيانو حتى ضبطت أنغامها بعدها أنفجرت الأحاسيس الفنية بتعبيراتها من خلال حركات جسدها وهى تتمايل كالأغصان حينما تلفحها نسمات الربيع في هذه اللحظة. جاءت زوجتي من خارج البيت متسللة دون أن نشعر بها ووقفت خلف الباب حتى انتهت من عزفها على البيانو بعدها دخلت علينا وهى تصفق لها بحنان الأم وعيناها تداريها من تساقط الدموع من على وجنتيها وهى تحتضنها حتى لا تشعر بها. وتمضى الأيام وهى تمارس تمارينها على البيانو كل يوم حتى جاء موعد الحفل وعلينا تجهيز أنفسنا حتى يتسنى لها عمل البروفات النهائية على البيانو قبل بداية الحفل كل ذلك وأنا على يقين بأن أبنتى لا تشارك فى حفل هذا العام وهى على هذا الحال كنت أخشى من اللحظة المؤلمة التي ستواجها وماذا سيكون رد فعلها ربما تشك بأنني خدعتها بالموافقة وأحضرتها الى هنا مجبر الخاطر حاولت بقدر المستطاع أن أزيح عني هذا الكابوس الذى يخيم على فكرى ربما تحدث معجزة. ووصلنا إلى مكان الحفل وكان فى انتظارنا لفيف من الأقارب والأصدقاء فى حديقة المسرح الخارجية .. وأبنتى تلوح لهم بيديها من نافذة السيارة لأصدقائها وفتحت الشنطة الخلفية للسيارة وأخرجت منها الكرسى المتحرك وقد أنتاب الجميع حاله من الهلع والخوف وأنا أفتح باب السيارة لأبنتى وهى تلتف بيديها حول عنقي لأحملها بين يدى حتى أجلسها على الكرسى المتحرك وكانت مفاجئة للجميع وآخذو يقتربون نحوها بعد أن تجمدوا فى أماكنهم فى بادئ الأمر من هذا المشهد المؤلم ،كانت أبنتي ترتدي زيها الرسمي الجديد الكحلى الغامق التى اشترته والدتها قبل أجراء العملية الجراحية وعلى صدرها وردة حمراء مطعمة بأوراق خضراء زاهية وتسريحة شعرها الانسيابي التي قامت والدتها بتصفيفها في المنزل ونظراتها التي تشع بالبهجة وهى ترد عليهم التحية بابتسامتها الهادئة وهى سعيدة لحضورها الحفل السنوي ومشاركتها مع زملائها ،وبدأت تدفع عجلات الكرسي المتحرك بكلتا يديها بحركات بهلوانية لتثبت أمام الحاضرين أنها بخير ولا يعوقها أي شئ عن العزف على البيانو كان الهمس داخل حديقة المسرح على أبنتى بأنه من المستحيل أن هذه الفتاة تعزف هذه الليلة وهى على هذا الحال ربما حدث خطأ بأدراج أسمها فى برنامج الحفل. فى هذه اللحظة كانت مديرة المعهد تشق طريقها وسط الزحام وهى تصافح الجميع وهى تحاول أن تهم بالدخول حتى وقعت المفاجئة التى لم تتوقعها أمامها بعد أن أفسح لها الجميع الطريق وأصبحت وجها لوجه أمام أبنتى ونظرت أبنتى إليها وابتسامتها الرقيقة التى تشع بالبهجة على وجهها بمشاركتها الحفل السنوي وفى انتظار الرد منها. لم تتمالك مديرة المعهد نفسها فى هذه اللحظة التى حركت كل مشاعر الحب والحنان فى قلبها بعد أن تجمدت أقدامها لحظة من الوقت بعدها جلست القرفصاء أمامها دون أن تنطق بكلمة واحدة وكاد السكون يخيم على جميع الحاضرين لهذا المشهد وهى فى حالة من الذهول أمام أبنتي وهى تضع يديها على رأسها تارة وتتحسس يديها تارة أخري وهى تنظر إليها بنظرات إعجاب وافتخار لشجاعتها وأسرارها بمشاركتها مع زملائها فى الحفل السنوى رغم ما أصابها ، وهمت واقفة ونظرت حولها وهى تمسك بكلتا بيديها الكرسي المتحرك وقالت أمام الحاضرين : حسنا يا أبنتى مرحبا بك ولشجاعتك ولحبك للفن وصفق لها جميع الحاضرين بكل حرارة لهذه اللفتة الإنسانية وأخذت تدفع الكرسى المتحرك بكلتا يديها داخل المسرح ووقفت أنا وزوجتي فى حيرة من هذا الموقف كل هذا ، وأنا على يقين بأن أبنتى لا تشارك الليلة فى هذا الحفل حاولت اللحاق بأبنتى ومنعوني من الدخول قلت لهم أنها أبنتى وأشار أحد المشرفين على الحفل بيديه وقال لى : فى الجانب الآخر شباك التذاكر .. قلت له كيف يحدث هذا وأنا ووالدتها مرافقين لها لم يعيرهم حديثى وضغطت زوجتى على يدى وقالت لى التعليمات صريحة من أجل أحياء الفن لابد من تقديرة ليرتفع إلى العنان وإعطائه المزيد. ولزمت الصمت وأنا فى حالة يرثى لها من الضيق والغضب من هذا الموقف وأخذت أتجول فى حديقة المسرح الخارجية وألتفت حول نفسي أبحث عن زوجتى وسط الزحام لم أجدها بجوارى حتى سمعت صوتها من بعيد وهى تلوح بيديها بتذكرتين. ودخلنا المسرح وجلسنا فى أماكننا المخصصة لنا حتى بدأت الأضواء داخل المسرح تنطفئ تدريجيا عدا ضوء قمري هادئ على المسرح مركز على البيانو وهدوء فى كل مكان وتقدمت مديرة المعهد لتعلن فقرات البرنامج وبدا الحفل بعزف منفرد على البيانو وكنت أشعر بقلق وحيرة على أبنتى لما ستواجه فيما بعد وكأن دقائق العزف المنفرد على البيانو كأنها ساعات طويلة رغم حبى وعشقي للموسيقى الكلاسيكية ربما مديرة المعهد أقنعتها بأن حالاتها لا تسمح لها بالمشاركة فى الحفل السنوى وتجلس معها خلف الكواليس ووكلتها بعمل شئ ربما لتسجل بعض الملاحظات أثناء عزف زملائها على البيانو وأستمر الوقت طويلا لتقديم الفقرات وكل همي ماذا سيكون موقف أبنتى فيما بعد وأخيرا ظهرت مديرة المعهد على خشبة المسرح وعلى شفتيها أبتسامة هادئة تشع بالسعادة والأمل وعيناها ترصد الحاضرين داخل القاعة وهى تعلن بأن تنهى الحفل السنوى بمفاجأة للجميع. سنيورى سنيورى (ياسمين أبو شارب). لم أصدق نفسي وأنا أسمع أسم أبنتى كانت لحظات من أجمل اللحظات فى حياتي فرأيت أبنتى وهى تدفع بكلتا يديها عجلات الكرسى المتحرك دون مساعدة من مرافق لها داخل المسرح ووقف الجميع يصفقون لها تصفيق حاد بكل حرارة لم أرها فى حياتي وهى ترد عليهم التحية بحركاتها الدائرية بالكرسى المتحرك والتصفيق الحاد مستمر لها حتى أقتربت من البيانو وهدأ التصفيق وجلس الحاضرين ودقات قلبي المتدفقة فى أنتظار المعجزة وزوجتى تضغط على يدى بشدة والدموع تتساقط من عينيها ونحن نراقب أبنتنا وهى تحاول تحريك وضع الكرسى المتحرك بزاوية ملائمة لها بجانب البيانو حتى لا يعيقها أثناء العزف بعدها أنطلقت بأناملها أنغام هادئة تنثر رحيق الأمل والسعادة وعزفت مقطوعتها الموسيقية كأنني أسمعها لأول مرة فى حياتي. وأنهت عزفها على البيانو ورأيت جميع الحاضرين بالقاعة يقفون ويصفقون لها بكل حماس دون أنقطاع وأبنتى تؤدى لهم تحيتها بطريقتها الخاصة اللف والدوران بالكرسى المتحرك على خشبة المسرح التى أصبحت لعبتها المفضلة وابتسامتها لم تفارقها فاندفعت مديرة المعهد نحوها وهى تنحني لها وتقبل يديها وأسدل الستار على المسرح والتصفيق الحاد لم ينقطع لها وفتح الستار مرة أخرى وهما يؤديان التحية مصحوبة بإعادة مسجلة لمقطوعتها الموسيقية وهما تلوحان بأيديهما وأسدل الستار ومازالت الآلات الموسيقية تعيد مقطوعتها أثناء خروج الحاضرين. وخرجت مسرعا للحاق بإبنتى لأستقبلها من الباب الخلفي للمسرح والجميع يهرولون إلى الخارج دون أن أعرف سبب خروجهم المفاجئ بهذه الطريقة وفوجئت بالجميع يلتفون حول الكرسى المتحرك ويتسابقون لحمل أبنتى وهم يطوفون بها حديقة المسرح الخارجية وهم يهتفون يايا. يايا. يايا اختصارا لأسمها ، فاقتربت منها أنا وزوجتى وهى تفتح ذراعيها لتحتضننا والفرحة والسعادة تشع من عينيها لما حققته بعزيمتها هذه الليلة ، وعودنا إلى المنزل بعد أن قضينا ليلة نثرت أنغامها بذور الحياة والأمل من جديد على موعد مع أنغام على البيانو ؟.