يوم السبت الماضي.. استيقظت عند العصر علي تليفون من الصديق الفنان فاروق حسني وزير الثقافة. لم يكن فاروق حسني الذي عرفته سنوات طوال. هاديء الحديث مسيطر علي انفعالاته! كان فاروق حسني آخر! أبلغني وزير الثقافة أن لوحة أزهار الخشخاش للفنان العالمي فان جوخ. قد تم اكتشاف سرقتها عند الظهر من المتحف الشهير. كان فاروق حسني حزيناً منفعلا بشدة وهو يبلغني الخبر. فهو وزير الثقافة المسئول عن كنوز مصر الفنية. وهو فنان يدرك تماما قيمة لوحة أزهار الخشخاش علي مستوي العالم! وسألني الفنان فاروق حسني عما كنت قد كتبته منذ سنوات. عن اللوحة عند سرقتها لأول مرة. في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. وهي السرقة التي أحدثت ضجة أيامها في مصر وفي العالم. ولم تكن الظروف ولا الوقت يسمحان لي بأن أحكي لوزير الثقافة تفاصيل ما كتبته عن اللوحة عند سرقتها الأولي. وحكاية الصداقة التي نشأت بيني كصحفي حوادث وإنسان. وبين اللص حسن العسال الذي سرق اللوحة. ثم ساهم فيما بعد في اعادتها إلي مصر بعد تهريبها إلي دولة الكويت! والحكاية صفحة قديمة من دفتر ذكريات سنواتي الماضية مع الحياة في قاع المجتمع. أيام اللهاث وراء حكايات الحوادث والجريمة. والتفاصيل الخفية وراء كل حكاية! هل يمكن أن تنشأ صداقة بين صحفي.. ولص؟! هل يمكن أن يتبادل كل من الصحفي واللص موقعه مع الآخر؟! نعم حدث ذلك.. ولم أكن أتخيله عندما سرق لص مجهول في نهاية السبعينيات لوحة »أزهار الخشخاش« من متحف محمد محمود خليل بالزمالك. وأثارت السرقة ضجة كبيرة لأنها تحولت إلي لغز. وحين طلب مني أستاذي الصحفي الراحل سعيد سنبل. وكان أيامها يعمل مديراً لتحرير جريدة »أخبار اليوم«. أن أكتب عن السرقة وأخبرته انني سأتخيل نفسي اللص المجهول الذي سرق اللوحة. وسوف أضع خطة لسرقة المتحف. حتي اكشف الثغرات التي تسلل منها اللص وسرق اللوحة. اتهمني الأستاذ سعيد سنبل بالجنون.. لكني فعلتها! في اليوم التالي بدأت مغامرتي الصحفية.. ذهبت إلي متحف محمد محمود خليل كزائر وقمت بمعاينة المتحف بعد أن تسللت وسط زحام السياح واكتشفت أنه لا توجد حراسة كافية.. الطابق الأول عبارة عن سبع غرف تؤدي إليها جميعا ردهة واسعة.. علي الحوائط ثروات خيالية.. لوحات نادرة لجوجان ورينوار وانجو ديميليه وكبار الفنانين العالميين.. واكتشفت أنه لا توجد أسلاك تشير إلي وجود أجهزة انذار.. وخارج المتحف لم أجد سوي أربعة جنود يتولون حراسته.. فانصرفت وعدت لأنفذ خطة السرقة بعد منتصف الليل! كانت ليلة شتوية باردة.. ذهب أحد الجنود ليحضر الشاي لزملائه من مكان قريب.. بينما »تكوم« الثاني والنعاس يغالبه وسقطت بندقيته الي جواره.. وانشغل الاثنان الآخران في حديث طويل! دق قلبي بعنف أنا أقفز فوق السور الحديدي الذي يحيط بحديقة المتحف.. ثم أسرعت اختبيء وسط الأشجار والنباتات الكثيفة التي تنتشر في الحديقة.. الاضاءة غير جيدة.. كمنت في مكاني دقيقة التقط أنفاسي وأتأكد أن الحراس لم يشاهدونني ثم عدوت نحو المتحف.. استدرت بعيدا عن الباب الضخم الذي يصعب كسره أو فتحه.. لاكتشف أن معظم النوافذ من خشب الأرابيسك ولا توجد بها أجهزة انذار.. مددت يدي وضغطت علي النافذة.. يمكن فتحها بسهولة لو كانت معي »طفاشة« أو »أجنة« حديدية.. لكن الآلة الوحيدة التي تعودت استخدامها هي القلم! اذن.. يمكن دخول المتحف بسهولة حتي بعد أن حدثت سرقة اللوحة وعدت من نفس الطريق إلي الخارج. وكان هذا كل ما أريد وفي صباح اليوم التالي كنت أقف أمام الأستاذ سعيد سنبل وهو يقرأ التحقيق الصحفي الذي كتبته. وكان عبارة عن خطة لسرقة المتحف كما تخيلت أن اللص المجهول قد سلكها في السرقة! حدق مدير التحرير في وجهي وكأن نظراته تؤكد انني »مجنون بصحيح « لكنه بلا أي تردد كتب رأيه في الموضوع وكانت كلمة واحدة هي »ينشر«! تلك كانت أول علاقة لي باللص الذي أصبح صديقي! وفيما بعد عندما انكشف لغز السرقة عادت لوحة »أزهار الخشخاش« إلي المتحف. قال اللص الذي سرقها »حسن العسال« لرجال المباحث. أنه حين قرأ التحقيق الذي كتبته عن سرقة اللوحة شك للحظات في انني كنت موجودا بالقرب من المتحف أثناء قيامه بالسرقة لأنني فعلت ما فعله بالضبط! فيما بعد نشأت صداقة بيني وبين حسن العسال الذي كان رجال المباحث يرونه أخطر لص في القاهرة بينما كنت أراه. مجرد انسان سييء الحظ كان يمكن أن يكون فنانا أو ضابطا أو حتي صحفيا! جاء الطفل حسن العسال وسط أسرة محترمة تعيش في فيلا في الهرم الأب محام كبير مشهور والأم سيدة فاضلة من أصل تركي. ولأن أحدا لا يعرف مصيره عندما يولد فلم يكن يخطر أبدا علي بال حسن أنه سيصبح لصا. لكنها الحكاية المكررة كان الأب شديد القسوة علي أولاده الثلاثة وبالذات علي أصغرهم حسن وكان الأب يتهم أولاده بعدم الالتفات إلي دروسهم ومذاكرتهم كما ينبغي. وكانت النتيجة أن هرب الشقيقان الكبيران من المنزل فرارا من قسوة الأب.. وتركا الصغير حسن يتعرض وحده للوم والتأنيب. وبينما كانت الأم الطيبة تحنو علي طفلها ذي العينين العسليتين. كان الأب يمارس عليه المزيد من القسوة وكانت النتيجة المتوقعة أن هرب حسن وعمره 31 سنة إلي الشارع بعد أن هجر الدراسة.. وفي الشارع تلقفه »أولاد الحرام«.. وعلموه المهنة الخطرة.. سرقة البيوت! قال لي حسن: حاولت أن أتعلم أي مهنة.. عملت مصورا بعض الوقت.. لكن عالم الجريمة لم يتركني أبدا كان أصدقاء السوء يدفعونني دفعا إلي الجريمة. كنت بلا أسرة ولا أصدقاء يقدمون المساعدة والنصيحة هكذا تحولت تدريجيا إلي أخطر لص مساكن محترف. كنت عندما أذهب إلي سرقة بيت كنت ارتدي القفاز حتي لا أترك آثار بصماتي.. وارتدي حذاء بالية حتي أتحرك في خفة وصمت.. وأصبحت شهرتي »لص حذاء البالية«!! من حي شبرا اختار حسن شريكة حياته.. فتاة هادئة من منطقة يطلق عليها »العسال« وبهذا الزواج. أصبح اسم حسن »حسن العسال« وعندما جاء الأولاد كثرت مطالب الزوجة وبدأت تهجر البيت معظم الوقت إلي بيت أهلها. واشتدت الخلافات فطلقها حسن وتزوج من فتاة أخري كانت تحبه بجنون. ولا تريد له أن يمضي في طريق الجريمة. ووعدها حسن أن يبحث عن عمل شريف. لكنه أخبرها أن عليه أن يقوم بسرقة واحدة. لحساب مرشد سياحي يسكن في الهرم. كان قد اتفق معه أن يسرق »لوحة أزهار الخشخاش« من متحف محمد محمود خليل مقابل ألف جنيه! وتاب حسن بعد سرقة اللوحة! وذات يوم ذهب مع طفلته الصغيرة لزيارة العميد محمد عبدالنبي مفتش المباحث فالمفروض أن يذهب اللصوص التائبين إلي الضباط الذين يتابعونهم. ليتأكد الضباط من صدق توبتهم ويساعدونهم علي حل مشاكلهم. وحدث شيء غريب! كان الضابط وهو فعلا رجل طيب القلب قد طلب من المخبر الذي يقف علي باب مكتبه أن يشتري »شيكولاته« لابنة حسن العسال. واهتز حسن بهذا التصرف الانساني ودمعت عيناه، وكنوع من التعبير عن العرفان كشف للضابط عن لغز سرقة لوحة أزهار الخشخاش واعترف له بأنه هو الذي سرقها. ووعد أن يساعد رجال المباحث في اعادة اللوحة. كل ذلك من أجل قطعة »شيكولاتة«! وقضت المحكمة بحبس حسن سنه لكنها أوقفت الحكم وخرج حسن من المحكمة سعيدا علي أمل أن يبدأ حياة جديدة شريفة. بعد أن وعده رجال المباحث بمساعدته في الحصول علي كشك سجاير. ومضت شهور وفي ليلة كنت فيها ساهرا أقرأ في بيتي. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل. كان السكون يعم البيت وأطفالي نائمون. وفجأة سمعت صوتا غريبا، وفجأة وجدت أمامي في بيتي وفي هذا الوقت المتأخر شابا مجهولا يقف في ردهة البيت. وقبل أن أتحرك علت وجهه ابتسامة شاحبة. وقال بهمس: أرجوك.. لا تخف.. ولا توقظ النائمين.. أنا حسن العسال! حتي الفجر جلسنا نتحدث وفتح حسن العسال قلبه لي. بعد أن اعتذر عن هذه الطريقة في دخول بيتي. قال لي إنه سوف يسرق اللوحة مرة أخري لأن ظروفه المادية تعسة وأطفاله لا يجدون ما يأكلونه قال لي لا يمكنه العثور علي عمل شريف. لأن سمعته كلص تائب تطارده والناس تنسي دائما كلمة »تائب« وتتذكر فقط كلمة »لص« قال لي ان مكافآت ضخمة وزعت علي كل ضباط الشرطة الذين اشتركوا في القضية لكنه لم يحصل علي مليم واحد. رغم أنه الذي اعترف بكل شيء وبفضله عادت اللوحة. ورويت قصة حسن لأستاذي الكبير مصطفي أمين فقال لي أن الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نساعده بها. أن تنشر »أخبار اليوم« مذكراته وتدفع له مبلغا. هكذا تحول حسن إلي صحفي وظل طوال شهرين يكتب مذكراته في »أخبار اليوم« بعد أن كان يجلس معي ويحكي وأكتب المذكرات لكن للأسف لم تستطع أخبار اليوم أن تدفع له مقابلها سوي مبلغ مائة جنيه.. فماذا تفعل مائة جنيه للص سابق وزوجته وثلاثة أفواه صغيرة تريد أن تأكل ثلاث مرات كل يوم؟! كانت الأيام قد وطدت صداقتي بحسن العسال؟ أصبح يزورني وزوجته وأطفاله في البيت.. فتح قلبه لي أكثر.. روي لي أسرارا مذهلة عن عالم الجريمة السفلي.. كان يعتصر ألما وهو يقول إن القدر أقوي من الانسان أن المرء لا يختار حياته وانما تفرضها عليه ظروفه. وساءت أحوال حسن أكثر وأكثر! وفي يوم جاءني في أخبار اليوم وقال لي إنه باع كل شيء حتي »عفش« بيته ليطعم أطفاله. ولم يعد لديه ما يفعله سوي أن ينزع بلاط الشقة ويبيعه ليشتري علبة لبن لطفله الصغير. أخذت حسن العسال من يده.. غادرنا »أخبار اليوم« الي منطقة وسط القاهرة.. لم يسألني إلي أين نحن ذاهبان.. لكنه توقف مترددا علي باب البنك الأهلي أنا اسحبه معي لدخول البنك. في النهاية استسلم ودخل معي. وقفت أمام الصراف وسألته: من فضلك.. ما هو اجمالي رصيدي عندكم؟ - نظر الصراف في دفتره ثم قال: ألفي جنيه.. فقط. أخذت ألف جنيه من الصراف.. خرجت من البنك ومعي حسن العسال مذهولا.. توقفنا علي الرصيف.. اعطيته الالف جنيه. - وقلت له: اذا كان مستقبلك وحياة أولادك تحتاج إلي معجزة.. الي كشك سجاير.. كشك السجاير يحتاج الي الف جنيه.. وهذه هي الالف جنيه.. خذها! نظر حسن إلي الألف جنيه غير مصدق.. سألني: لماذا تفعل ذلك؟ - قلت: ولماذا لا أفعل؟ قال: سأظل مدينا لك طوال العمر.. ولكن خائف! - قلت: من ماذا؟ قال: لن يتركني قدري! مضت شهور.. ومضي عام! وذات صباح وجدت علي مكتبي رسالة من سجن طرة.. كانت من حسن العسال وكان يقول لي فيها: أرجوك أن تحضر لمقابلتي في السجن لقد لفقوا لي تهمة مخدرات.. اللصوص لم يتركوني أبدا في حالي وحاولوا طوال الوقت أن يجرفوني معهم مرة أخري الي عالم الجريمة والضباط.. لم يرحموني وحاولوا تجنيدي مرشدا لهم وضعت.. بين أولئك وهؤلاء.. أريدك لدقائق.. أريد ألا تظن أنني أهدرت الفرصة التي منحتها لي.. أنت القاضي الوحيد الذي يهمني أمره.. أنا في انتظارك.. ألم أقل لك أن القدر أقوي؟! و..لم استطع قراءة الرسالة مرة أخري ولم اذهب للقاء حسن. فقد تملكني احساس طعمه مر بأنه خان حلمي وحلم زوجته وأطفاله في أن يصارع الشر ليضع لنفسه ولهم الحياة الجديدة،.. انقطعت عني أخبار حسن العسال ولم اهتم بالسؤال عنه بعد أن خرج من السجن. ولم أحاول معرفة ما اذا كان قد هزم ضعفه. ومرت سنوات وانتهي الامر بحسن الي العمل »كفتوة« في احدي ملاهي شارع الهرم يتصدي للبلطجية والسكاري.. ويعود آخر الليل لأولاده بعين منتفخة من السهر وأخري متورمة ربما من قبضة يد بلطجي أو سكير. وانتهي الأمر بأن أغمد أحدهم سكينة في قلب حسن العسال.. سقط علي الارض صريع اغمض عيناه للمرة الأخيرة في حياته! وحين علمت بخبر مصرع العسال.. لم تبك عيناي.. لكن قلبي قال في أسي: »مع السلامة.. يا صاحبي«!