ليس في قلب الأب أغلي من حبه لأبنه، ولو خيّروا الأب- أي أب- بين حياته وحياة ابنه فلن يختار سوي حياة ابنه، وهي الحالة الوحيدة التي يرحب فيها إنسان ما بالموت لنفسه من أجل إنسان آخر! وكل الأحزان تهون.. إلا فقد الأبناء.. فلا حل أمامها سوي أن يلهم الله الأهل بالصبر الجميل! هكذا كنت أحدث نفسي بعد أن هدأت وسائل الإعلام من تغطية حادث الاعتداء علي سيارة الترحيلات التي هاجمتها عصابة مسلحة في السادس من أكتوبر، وهاجمت أفراد الحراسة وأطلقت الرصاص علي إطارات السيارة حتي توقفت تماماً، فتكالب المجرمون علي العسكري الذي يجلس خلف صندوق السيارة ومعه مفتاح الجزء الخلفي للسيارة حيث المتهم الذي أراد المجرمون تهريبه.. أمر المجرمون العسكري محمد خليفة أن يفتح باب الجزء الخلفي لخطف المتهم أو يمنحهم المفتاح، فرد عليهم هذا الجندي البسيط قائلاً: »لن تأخذوا المفتاح إلا في حالة واحدة.. لو قتلتوني!«.. هكذا قالها بكل شجاعة المصري الأصيل المحب والعاشق لتراب الوطن، والفاهم للرسالة التي يؤديها في خدمة العدالة. قالها العريف محمد خليفة عبدالمنعم وهو يعرف ويدرك ثمن كل حرف نطق به.. فالرصاص كان كالمطر من كل جانب والسائق خالد سيد سعداوي يرفض التوقف، بينما الرقيب منصور محمد علي، والعريف سيد جبريل محمد، يلقيان بجسديهما فوق المتهمين فتخترق بعض الرصاصات أنحاء متفرقة من جسد كل منهما، ووسط هذا كله رفض العريف محمد خليفة أن يمنح المتهمين مفتاح الجزء الخلفي من السيارة، فما كان من المجرمين إلا أن أطلقوا عليه الرصاص حتي فارق الحياة وقد ماتت يداه علي المفتاح والقفل! هذه هي تفاصيل الحادث الذي امتزجت فيه الدماء بأروع البطولات من جنود بسطاء رفضوا الاستسلام وطلقات الرصاص تنهمر حولهم من كل جانب.. ونشرت وأذاعت وسائل الإعلام معظم هذه التفاصيل، لكنها سرعان ما انشغلت بأحداث وحوادث أخري! إلا أنني ظللت منشغلاً ومشغولاً بتوابع هذا الحادث الأليم، فالإعلام أدي واجبه في نقل وقائع الحادث، لكن هناك دموعا وأحزانا ووقائع أخري لابد أنها كانت تدور في بيوت الأبطال الأربعة، وهي تفاصيل إنسانية شدتني أكثر ما شدتني مع اقتراب أيام رمضان الأولي، خاصة هذا الأب البسيط عم خليفة عبدالمنعم الذي أضاعا منه ولده في غمضة عين!.. وصار الأب المكلوم مسئولاً عن زوجة ابنه وبناته الثلاث نورهان ونادية ودعاء، أكبرهن عمرها خمس سنوات، وأصغرهن عمرها شهران! ودعهن محمد صباح يوم الحادث بعد أن تحدث مع زوجته عن أيام وليالي رمضان وفساتين العيد لبناته.. ركب محمد سيارة الترحيلات دون أن يدري أنه مسافر لن يعود! طلبت من العميد أحمد طه مدير العلاقات العامة والإعلام بمديرية أمن السادس من أكتوبر أن أتحدث مع الأب وأعزيه وأشد من أزره بعد أن حرمه المجرمون من ابنه قبل أيام من الشهر الكريم، وظننت أنني سأكون الوحيد الذي تألم لحال هذا الأب. إلا أنني فوجئت بصوت الرجل بقدر ما به من حزن وأسي كانت نبراته القوية وهو يقول لي: دلوقتي بس الحزن بيخف من فوق قلبي، السيد حبيب العادلي وزير الداخلية ومكتبه ومديرية أمن أكتوبر خلوني أشعر أن محمد مش ابني لوحدي، ده ابن مصر كلها، صحيح السيد الوزير منحه ترقية استثنائية لرتبة رقيب ودرجة الشهيد.. صحيح ان اللواء أسامة المراسي مساعد أول الوزير عزاني بنفسه.. صحيح ان العميد هاني عبداللطيف مدير العلاقات العامة بالوزارة بيتصل بينا ويطمنا علي سرعة صرف المستحقات، والعميد أحمد طه يومياً معنا علي التليفون، لكن اللي أكتر من كل ده إنك تحس ان الدولة كلها وراك وان دم ابني مارحش هدر.. وعلشان كده أنا أخذت قرار يمكن يكون أخطر قرار في حياتي! كنت استمع للأب مندهشاً ومعجباً بحماسه الشديد وتأثير مساندة وزارة الداخلية ومديرية أمن أكتوبر له، لكن استوقفتني آخر جملة نطق بها فسألته: قرار إيه يا عم خليفة؟! - باقي أولادي قدمت لهم في وزارة الداخلية بعد أن رأيت وعشت هذه المواقف العظيمة من الوزارة.. ابني ناصر وابني جمال قدمت للوزير طلبين علشان يلتحقوا بالعمل في الداخلية! وسيادة المساعد أسامة بيه المراسي ان شاء الله يكتب للوزير انه يستثني أولادي ويقبلهم في الوزارة. ألا تخشي عليهم من الحوادث؟! - طالما مصر بتقدّر اللي بيضحوا علشانها.. يبقي كلنا لازم نخدم مصر بأرواحنا! أنت أب عظيم.. - لا عظيم ولا حاجة.. أنا أب مصري من طينة مصر.. شربت من نيلها ونمت في أمانها! هزتني كلمات الأب ودعوت له أن يلقي طلبه الاستثنائي موافقة السيد الوزير حبيب العادلي الذي لا يتأخر لحظة واحدة عن رعاية أبنائه من جميع الرتب. لكنني عدت أسأل عن الأبطال الثلاثة الآخرين الذين أمر الوزير بعلاجهم فوراً في مستشفي الشرطة، فكانت المفاجأة أن اللواء أسامة المراسي مساعد الوزير قام بتكريم سائق السيارة الذي لم ترهبه طلقات الرصاص ولم يحاول التوقف بالسيارة، وقدم اللواء المراسي نيابة عن وزير الداخلية مكافأة مالية للسائق وشهادة تقدير وميدالية الوزارة.. بل وذهب إلي الرقيب منصور محمد والعريف سيد جبريل ليقدم لهما مساعدة مالية من السيد الوزير ويشكرهما علي دورهما البطولي في الارتماء فوق المتهمين وتحمل رصاصات الغذر وهي تخترق جسديهما! هذا جانب من الأحداث التي دارت بعد الحادث الأليم، وقد حرصت علي متابعته عن قرب حتي ان كلمات قليلة قالها الرقيب منصور والعريف جبريل هزتني بشدة وهما يعلقان علي الحادث قائلين: - احنا مش موظفين.. احنا بنأدي دور عاوزين عليه الثواب من الله.. دي أمانة في رقبتنا، واحنا ماعملناش غير الواجب! .. وربما لا يعرف كثيرون قيمة درجة الشهيد التي يمنحها وزير الداخلية للذين ضحوا بأرواحهم فداء لهذا الوطن الغالي.. إنها درجة تمنح مستحقات مالية لزوجة وأبناء الشهيد حتي يبلغ أبناؤه سن الرشد وهكذا سوف تكبر نورهان ونادية ودعاء وهن يعشن حياة كريمة.. وعمار يا مصر.. وشكراً للسيد الوزير ومكتبه خاصة اللواء حمدي عبدالكريم مساعد أول الوزير، والعميد هاني عبداللطيف اللذين يحرصان علي سرعة إنهاء إجراءات المستحقات المالية للشهيد وأسرته.. وشكراً لمدير أمن أكتوبر اللواء أسامة المراسي ومدير العلاقات العامة العميد أحمد طه.. وشكراً لأجهزة الأمن التي ألقت القبض علي الجناة لتقتص منهم العدالة وتبرأ مصر من أمثالهم.